جعجع… من السجن إلى القصر
وقع المحظور، «زفَّ» رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع للجماهير خبر ترشحه لرئاسة الجمهورية اللبنانية. النبأ أثار موجه عارمة من الاستنكارات لدى اهالي الضحايا الذين «انصفهم» المجلس العدلي باحكامه في الجرائم التي ثبت قضائياً ارتكابه لها، ابرزها جريمتي اغتيال الرئيس الشهيد رشيد كرامي، وقتل ابن رئيس الجمهورية السابق كميل شمعون داني وبعضاً من افراد عائلته.
ناهيك عن الكثير من الجرائم التي اتهم فيها ولم يحاكم عليها، ابرزها قتل ابن رئيس الجمهورية السابق سليمان فرنجية، طوني فرنجية. وامتناع المحاكمة عنه في قضية رفعت ضده تتمحور حول تسليمه للعديد من المقاومين لــ«اسرائيل» قبل عام 1990، اذ رأى الكثير من الحقوقيين المتابعين للقضية «امتيازاً أعطي لجعجع بالنسبة إلى سائر المواطنين، من دون أي مبرر متصل بالمصلحة العامة، بما أن قانون العفو الصادر عام 1991 منح العفو عن الجرائم المرتكبة قبل آذار 1991».
وبغية انهاء آثار الحرب اللبنانية وإزالة مآسيها الاليمة، اصدر مجلس النواب اللبناني قانون العفو رقم 84 في 26/8/1991، مستثنياً الجرائم التي احيلت على المجلس العدلي.
وبعد فتح ملفاته القضائية عام 1993 اثر تفجير كنيسة سيدة النجاة والحكم عليه في قضيتي الرئيس كرامي وداني شمعون، استفاد الدكتور سمير جعجع من قانون العفو العام رقم 677 تاريخ 19/7/2005 والذي قضى بمنح «عفو عام عن جميع الجرائم موضوع الأحكام الصادرة عن المجلس العدلي رقم 5/95/ و 2/97 و 2/99 و4/96 والحكم الصادر عن محكمة جنايات بيروت عن رقم 380/96. كما قضى بوقف الملاحقات وإسقاط جميع مذكرات التوقيف وإلقاء القبض المتعلقة بالقضايا المشمولة بهذا القانون، وإسقاط جميع الأحكام الصادرة وكافة العقوبات المقضى بها».
وبعد هذا العرض التاريخي البسيط، وقبل الدخول في الرئاسة والانتخابات والنصاب وغيرها من الامور الشكلية، هناك سؤال يطرح نفسه: هل يحق للدكتور سمير جعجع الترشح اصلاً الى الانتخابات الرئاسية؟
وللجواب على هذا السؤال، يجب عرض بعض آراء كبار فقهاء القانون حول الجرائم والتفريق بين نوعي العفو الخاص والعام، قبل الوصول الى نتيجة منطقية.
يذكر الاستاذ الدكتور القاضي سمير عاليه في كتابه «قانون العقوبات-القسم العام: المسؤولية والجزاء»، ماهية كل من العفو الخاص والعفو العام، اذ يعتبر الاول بانه «اجراء يتخذ من رئيس الدولة (مرسوم) لمصلحة من حكم بصورة مبرمة للاعفاء من العقوبة كلها او بعضها او ابدالها بعقوبة اخف… وتقوم مبررات العفو الخاص على اساس كونه وسيلة لاصلاح الاخطاء القضائية اذا اكتشفت في وقت لم يعد فيه ممكناً اتباع اي طريق قضائي لتجنب الخطأ. وهو ايضاً وسيلة لتجنب تنفيذ العقوبات القاسية اذا اتضح انها غير متناسبة مع مقتضيات العدالة ومصلحة المجتمع. واخيراً قد يكون العفو الخاص وسيلة لتشجيع المحكوم عليه على تحسين سلوكه، خاصة في الدول التي لا يوجد في قانونها نظام وقف تنفيذ الحكم النافذ كما هو في لبنان».
اما الثاني، وبحسب الدكتور عاليه، فهو «قانون تصدره السلطة التشريعية لإزالة الصفة الجرمية عن فعل هو في ذاته جريمة يعاقب عليها القانون، بحيث يصبح كأنه لم يُجرَّم اصلاً…. وتبرر العفو العام عادة ظروف اجتماعية وسياسية تحتم اسدال الستار على بعض الجرائم، بغية ان تحذف من ذاكرة الناس واستئناف الحياة بمرحلة جديدة لا تعكرها ذكريات تلك الظروف. ولذلك يتقرر العفو العام عقب الاضطرابات السياسية ويكون موضوعه افعال جرمية ذات صلة بذلك». يؤكد ايضاً الدكتور محمود نجيب حسني، في كتابه الصادر في بيروت عام 1998، بعنوان «شرح قانون العقوبات اللبناني» ان من خصائص العفو العام تميزه «بطابع موضوعي، فهو ينصب على مجموعة من الجرائم فيزيل ركنها القانوني ومن ثم يستفيد منه جميع المساهمين فيها. ويتميز باتصاله بالنظام العام، إذ يقوم على اعتبارات من مصلحة المجتمع، ومن ثم لا يجوز للمحكوم عليه رفضه. ويتميز بعد ذلك بطابعه الجزائي فآثاره تقتصر على الصفة الجرمية للفعل (إلا إذا نص قانون العفو العام على غير ذلك). ويتميز بأثر رجعي يعود إلى وقت ارتكاب الفعل ويعترف أنه لم تكن له منذ ارتكابه صفة جرمية».
وعلى ذات سياق موضوعنا، يرى الاستاذ الدكتور ابراهيم شيحا في كتابه «الوسيط في القانون الاداري» وعند حديثه عن الشروط الواجب توافرها في المرشح المتقدم الى الوظيفة العامة بانه «يجب ان يكون المرشح للوظائف العامة محمود السيرة حسن السمعة.
ويقصد بحسن السمعة او السيرة ألا يكون الشخص قد اشتهر عنه فاله السوء… وقد ابان المشرع اللبناني عن الحالات التي تتنافى مع حسن السيرة وهي الحكم على الشخص بجناية او محاولة الجناية (الشروع) من اي نوع كانت، او بجنحة شائنة او محاولة جنحة شائنة». ويضيف الدكتور شيحا ان هذا الشرط هو شرط اساسي لبقاء الشخص في الوظيفة، ويشير الى ان المشرع اللبناني متشدد جداً (عكس المشرع المصري) في هذا الشأن اذ انه لم «يُجز تولي الوظائف لمن سبق الحكم عليهم في احدى الجرائم… حتى ولو اعيد اليهم اعتبارهم او استفادوا من العفو»، ولم يذكر الدكتور شيحا ما اذا كان هذا العفو خاصاً ام عاماً، اذ جاءت كلمة «العفو» على اطلاقها.
بعد هذين العرضين التاريخي والقانوني، يمكن استنتاج ما يلي:
1. يمكن اعتبار قانون العفو الذي صدر عن مجلس النواب رقم 677/2005 اقرب الى العفو الخاص منه الى العام ولو انه صدر بقانون، وذلك لعدة اسباب اهمها:
(أ) ان العفو الخاص لا يمنح الا بعد صدور حكم مبرم في الدعوى، هو ما حدث فعلاً، الامر الذي لا يستلزمه العفو العام.
(ب) ان العفو الخاص شخصي لا يفيد منه الا من صدر بإسمه، فذكر العفو العام لبعض احكام المجلس العدلي بعينها هو بمثابه اضفاء «صفة الشخصية» على العفو الصادر، وهو ما ينتفي مع مجال العفو العام بالمجمل حيث يجنح الى الموضوعية لا الشخصية.
(ج) ان العفو العام الذي صدر كان وقفاً لمفاعيل احكام المجلس العدلي، لجهة وقف تنفيذ العقوبة فقط، وليس محواً لاحكامه او طبيعة الجرم، وهو ما يقربه من العفو الخاص اكثر منه الى العفو العام إذ ان الاخير، وبحسب طبيعته، لا يضفي الصفة الجرمية على الفعل اصلاً.
2. ان حيثية العفو الخاص، كما اشار اليها الدكتور سمير عاليه اعلاه، لا تنطبق ايضاً على هذه الحالة، اذ لم يكن هناك اخطاء في احكام القضاء او تنفيذها، والعقوبة التي تم توقيعها كانت اقل من الافعال الاجرامية التي ثبت للقضاء ارتكابها. وعلى سبيل الذكر تم الحكم بالسجن المؤبد بدل الاعدام تنفيذاً لبنود قانون العفو ذاته.
3. ان قانوني العفو الصادران رقم 677/2005 و678/2005، هما «تسوية سياسية طائفية محدودة»، جاءت من باب المقايضة بين الدكتور جعجع ومحكومي احداث الضنية وعنجر، ولم تكن على اساس وطني شامل، كما كان الحال في قانون العفو عام 1991. ويعيد الكثيرون الامر الى فوز فريق سياسي موالٍ لطرفي المُعفى عنهم بغالبية مقاعد مجلس النواب حينها.
4. يقول احد فقهاء القانون الدستوري بأنه «كان من الممكن التقدم بطعن على قانون العفو هذا من قبل بعض النواب، ولكن هناك سببين منعا هذا الطعن. السبب الاول التعطيل العمدي للمجلس الدستوري وقتها، والثاني الرغبة في التهدئة السياسية بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري». ويرى أنها كانت «فرصة مهمة لوقف مفاعيل هذا القانون».
5. بالاستناد الى ما ذكرناه عن الدكتور ابراهيم شيحا، اذا كان الشخص المتقدم الى سلك الخدمة العامة، الى ايه فئة، ذا سلوك سيئ أو شائن، وان حصل على عفو، لا يحق له التوظيف، فكيف هو الحال في رئيس الجمهورية الذي يعتبر رمز وحدة البلاد وواجهتها وممثلها؟
انطلاقاً مما سبق والنقطة الاخيرة تحديداً، يرى كثيرون عدم أحقية الدكتور سمير جعجع في التقدم أصلاً بطلب ترشحه الى مجلس النواب عن مقعد رئيس الجمهورية، فأحكام القضاء المبرمة لا يلغيها قانون العفو، أياً كان تصنيفه، مفاعيلها الاجتماعية على الاقل وان كان من الممكن إلغاء مكوناتها القانونية.
علوان نعيم أمين الدين – باحث في الشؤون القانونية – صحيفة الأخبار اللبنانية