جدران غير مرئية في حرب قد لا تبقى باردة
موقع إنباء الإخباري ـ
د. لينة بلاغي:
“أن عددا من “الأخطاء” التي ارتكبتها الولايات المتحدة وروسيا وحلف شمال الأطلسي (ناتو) في أعقاب تفكك الاتحاد السوفيتي أدت إلى التدهور الحالي في العلاقات بين موسكو والغرب، وأحد الأسباب الرئيسية الهدامة هو توسع الناتو في شرق أوروبا “، هذا الكلام صادر عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
كلمات بوتين هذه فيها الكثير من الاشارات التي من شانها توضيح جمله من المواقف الروسية الدولية والاقليمية ، فالى الغرب من روسيا تقع مجموعة – فنلندا و استونيا ولاتفيا و بيلاروسيا و أوكرانيا ، دول خرجت في العقود القليلة الماضية من منظومة الاتحاد السوفياتي سابقا والتحفت ، باستثناء بيلاروسيا الرافضة واوكرانيا الراغبة، عباءة الحلف الاطلسي، تصلها الجغرافيا وسهولة المواصلات الى جانب القيم والتاريخ المشترك نسبيا، بروسيا الاتحادية، ويفصلها مشاريع الناتو التوسعية تحت القيادة الامريكية.
مؤخرا صدر العديد من التحذيرات الغربية تمحورت حول قدرة الناتو على مواجهة روسيا في حال اقدمت الاخيرة على خطوات تصعيدية في اوروبا الشرقية ، او باتجاه الدول التي تشكل امتدادا حيويا لروسيا جهة الغرب ، معتبرين أن حلف شمال الأطلسي ( الناتو ) سيكون الخاسر الأكبر في أي حرب مستقبلية مع روسيا، ويفسر المحللون ذلك بتراجع الولايات المتحدة أمام روسيا في أوروبا عسكريا. دعوات جاء الاعلان عنها مؤخرا الا انها كانت ولا تزال جزءا من السياسات الامريكية نحو بناء ، راس الجسر للتوسع التدريجي الى العمق الاوراسي.
وبالفعل رغم نفي امريكا وحلف الناتو على لسان امينه العام ينس ستولتنبرغ وجود اي نية للعودة للحرب الباردة الا ان امريكا مستمرة في زيادة ميزانيتها العسكرية وتتحرك باتجاه تدعيم وجود الحلف الاطلسي في اوروبا ، مع اشارات غربية تفيد بتعزيز الدفاعات في اوروبا الشرقية ونشر قوات عسكرية بصفة دائمة ، الامر الذي تعتبره روسيا تهديدا كبيرا ، تزامنت هذه التصريحات مع اتهام روسيا بدعم حركات معارضة في عدد من الدول الاوروبية ، وباعادة احياء سياسة هوليوود السينمائية حول الخطر الروسي الى جانب التطرف الاسلامي ، تمهيدا للحصول على موافقه الراي العام الامريكي والغربي عموما في اي اجراء قد يعتمد .
لقد بات واضحا للجانب الروسي ان الاستراتيجية الامريكية منذ ما قبل الحرب العالمية الاولى والثانية لم تلق باثقالها بعد، وانها عازمة على قيادة العالم بما يحقق استمرارية هذه القيادة ، وان اضعاف روسيا وتطويعها ، انطلاقا من مقوله مكيندر بان الذي يسيطر على جزيرة العالم يسيطر على العالم اجمع ، ما تزال تنبض في عروق الفكر الامريكي حيث ورغم انهيار جدار برلين والاعلان الرسمي عن انتهاء الصراع البارد ، استمر حلف شمال الأطلسي بتطبيق أجندته بالتوسع شرقا من خلال السماح للدول الأوروبية و دول الاتحاد السوفيتي السابقة الانضمام إلى تحالفه العسكري وهو ما وصفه بوتين يوما بانه ” كان على اللاعبين الرئيسين أن يعيدوا تحديد منطقة في أوروبا الوسطى لا يسمح للناتو بالوصول إليها بقوته العسكرية “.وإن ” الولايات المتحدة أرادت أن تتربع على عرش أوروبا بمفردها … ويمكنك أن ترى هذا بسعيها للانتصار المطلق في خطط الدفاع الصاروخي الأمريكية”.
رئيس الوزراء ، دميتري مدفيديف، اعلن مؤخرا، أن بلاده والغرب ينزلقان نحو مرحلة جديدة من الحرب الباردة بسبب الإجراءات المعادية لحلف الأطلسي (الناتو)، عقب ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا وهو ما رفضه الحلف. في حين صرح نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف ان واشنطن تواصل التجهيز لضربة عالمية كما تواصل انشطتها في زعزعة الاستقرار من خلال انشاء نظام الدرع الصاروخي وتطوير نظام هجومي متكامل .
هذه الاجواء كانت مهدت لها مناورات عسكرية ضخمة قام بها حلف الناتو بقيادته الامريكية جرت عام 2014 في اوروبا وبحر البلطيق ودوله، قابلها مناورات عسكرية روسية ايضا في نفس المنطقة ، بحيث يمكن وصف هذا العام بعام المناورات الكبرى، كما انه شهد تصاعدا ملحوظا في سوق التسلح الدولي ولاسيما على مستوى الشرق الاوسط . هذه المشهدية ربما هي التي دفعت مؤخرا قائد الجيش السويدي الجنرال أندرش برينستروم، الى التحذير من أن السويد قد تشهد حالة حرب خلال وقت قصير جدا وضرورة الاستعداد للأسوأ مشبها الوضع الذي يعيشه العالم بثلاثينيات القرن المنصرم ويؤدي الى استنتاج مفاده أننا قد نعيش حالة حرب في غضون بضع سنوات.
الحرب الباردة في اوروبا بين روسيا من جهة والمعسكر الغربي من جهة اخرى مستعرة ، على الرغم من عدم سماعنا اياها بوضوح في الشرق الاوسط نتيجة الازمة السورية ، ويمكن وصف كل من فنلندا ودول البلطيق بانها جدران الحرب الباردة غير المرئية شرق روسيا تمتد حتى بولندا واوكرانيا، المرشحة للانفجار مجددا ولاسيما بعد القرارالاوكراني مؤخرا توقيع مذكرة نوايا حول التعاون في مجال العمليات الخاصة بين هيئة قوات العمليات الخاصة للناتو وهيئة الأركان العامة الأوكرانية، وصولا الى منطقة البحر الاسود وجورجيا واذربيجان وخلفهما تركيا وهو ما يفتح المجال للحديث عن الدور التركي، الذي وعلى الرغم من التشنج الذي طال علاقتها مع امريكا على خلفية موقفها من حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي، الا انه من المرتقب ان يستمر دورها بفاعلية كدولة جدار امام التحركات الروسية في اسيا الوسطى واوروبا الى جانب لعب دور في سوريا .
ان الاحساس بالخطر الوجودي عند كل من روسيا وايران المحاصرة ايضا جغرافيا ، وبمشاريع حرب ناعمة وغير ناعمة ، هو ما يبرر ذلك التقارب الحياتي غير المسبوق بين الطرفين ، ومن هذا المنطلق يمكن فهم اهمية الزيارات المتبادلة بينهما على مستويات رفيعة لن تكون اخرها زيارة وزير الدفاع الايراني لموسكو، ورد وزير الدفاع الروسي السريع عليها .
لقد كان للتوتر الدولي وسباق التسلح والمسائل القومية واختلال ميزان القوى والمصالح الاقتصادية الدور الرئيس في اشعال الحروب الكبرى في القرن الماضي، فسقطت خلالها امبراطوريات عظمى ،ومن المرجح ان يكون للاسباب المشابهة ايضا دورا اساسيا في تفكيك واعادة تركيب اورواسيا وافريقيا وفي اشتعال الازمات الخطيرة التي قد تخرج عن سيطرة اللاعبيين فيها.