ثلاث معارك كبرى نتائجها ترسم الخارطة المستقبلية للاقليم
صحيفة المنار الصادرة في فلسطين المحتلة عام 1948 ـ
كتب سمير الفزاع:
كل شيء ممكن، لكن ليس كلّ شيء متاح… هنا تكمن العقدة الحقيقية لما يجري في المنطقة. يسعى كلّ طرف لتحقيق خططه، لكن البون والمسافة بين الممكن والمتاح هي من يحدد الشكل الأخير الذي ينتهي اليه مسرح العمليات. الخيارات صارت أضيق، والزمن المتاح قبل إنهيار كبير يمزق المنطقة، ويطيح بالكثيرين فيها وحولها… بات مستنفذاً إلى أبعد حدّ، ومن يفشل في معركة ما لن يكون قادراً على تكرارها أبداً على ذات الميدان؛ بل يذهب مجبراً إلى مسرح آخر وميدان عمليات جديد، وحدهم أصحاب القضية من يكرر المحاولة، وأما أصحاب المشاريع فيبحثون دائما عن البدائل. شرطان أساسيان لتنفيذ أي مخطط، القدرة والإمكانية… والقرار في تسخير القدرة وإستغلال الإمكانية لفرض الإرادة، ومنهما تتفرع عناصر أخرى متعددة. هم حققوا الكثير من خططهم عندما إمتلكوا القدرة، وأتيحت لهم الإمكانية… وأما القرار فقد كان حاضراً بشكل دائم لفرض الإرادة وتحقيق السيطرة. ولكنهم أخفقوا بقدر ما نجحوا، وفي مجمل الأحوال كانت السلطات العربية العميلة الأكثر فتكاً وشراسة في تنفيذ مخططات ومكائد الغرب الإستعماري… أكثر حتى من الغرب نفسه.
بصدق أقول، اليوم ظروفهم أصعب وإمكانياتهم أقل وخصومهم أقوى ومنافسيهم يتكاثرون… لذلك تتراكم إخفاقاتهم وتتكسر مشاريعهم في غير مكان… وبذات الوقت، نعيش –ميدانيّاً- مرحلة دقيقة وغاية في الصعوبة والحرج، يتطلب خروجنا منها منتصرين حسم ثلاثة معارك كبرى متلازمة، معركة عدن أو ما تبقى منها، والموصل، وإدلب.
ثلاثة معارك كبرى ينتظرها المشرق العربي وجنوبه، ثلاث معارك قاسية سيكون لها آثار حاسمة على شكل الخريطة المستقبلية للإقليم والمنطقة، معركة عدن في اليمن والموصل في العراق وادلب في سورية.
تشكل معركة عدن اوما تبقى منها الضربة القاصمة لمخططات آل سعود وأدواتهم في الداخل اليمني، من مليشيات هادي وفلول القاعدة وبقايا لتحالفات قبلية طالما باعت ولائها لريالات آل سعود ونفطهم… وبهذا سيكون لقوى الثورة اليمنية وحركة الاستقلال الوطني الكلمة العليا بحركة 5% من نفط العالم، و10% من تجارته، واليد الطولى في التحكم وإدارة أحد أهم المضائق في العالم باب المندب، وقيادة القاعدة الشعبية الأكبر والأكثر تطوراً وتحضراً وحداثة وثوريّة في جزيرة العرب حيث 40% من نفط العالم… عندها سيستسلم آل سعود للأمر الواقع، ويبلعوا ألسنتهم ويوقفوا عدوانهم.
وأما الموصل المدينة الاهم التي استولى داعش عليها بالكامل، فإن تحريرها سيشكل الضربة القاضية لداعش والخسارة الأبرز التي ستؤسس لإنهياره التام في العراق، وستسقط مشروع إرهابي تفتيتي فتنوي… إستثمر فيه عدد كبير من دول المنطقة والعالم. على الجانب السوري، ستكون آثار تحرير الموصل على مستويين متناقضين تماماً، الاول تدفق المزيد من المقاتلين الهاربين من العراق نحو الاراضي السورية، وتحديداً الى حوض الفرات وصولا الى الشمال السوري. الثاني، إلحاق هزيمة كبرى بداعش المشروع ومموليه ومحركيه والمستثمرون فيه… المشروع الأكثر خطورة وإجراماً وخيارهم الأخير –كما أعتقد- في الحرب على الإقليم وسورية بشكل أكثر تحديداً.
* لماذا إدلب؟
اعتقد بأن ما حدت في مدينة ادلب كان إعدادا تركياً “لموصل ” جديدة في الشمال السوري تنقذ داعش المشروع أو مشروع داعش من الإنهيار التام، بإيجاد قاعدة جغرافية تقع على تماس مباشر مع الحدود التركية لتلافي الحاجز الكردي في النموذج العراقي، وفي نفس الوقت إستثمار ما تتيحه السيطرة على إدلب من حيث الإمساك بنقطة إلتقاء ثلاث محافظات سورية دفعة واحدة حلب حماة واللاذقية، ما يمنح حلف العدوان على سورية هامش حركة أوسع وقدرة كبيرة جداً على تهديد هذه المحافظات الثلاث معاً على نحو بالغ الخطورة… ومن هنا تظهر اهمية معركة مدينة إدلب والمحافظة بالكامل كمعركة لتطهير المحافظة بحد ذاتها من جهة، وكمعركة لمواجهة الخطر المحدق بحلب وحماة واللاذقية وأريافهما ودفنه في مهده من جهة ثانية.
* أهميّة معركة إدلب.
تحمل معركة إدلب الكثير من المؤشرات الخطيرة المرتبطة بموقعها ومجرياتها وأهدافها. لجهة موقعها والغاية من السيطرة عليها، يمكن لمن يدير الجماعات الإرهابية عند السيطرة على محافظة إدلب أن يجعل منها المدينة-القاعدة -على نمط بنغازي أو الموصل- بسبب موقعها الطرفي –الحدودي- بالنسبة لسورية، وإتصالها المباشر مع قاعدة الإسناد اللوجستي الأكبر للجماعات الإرهابيّة تركيا، والإستثمار “الناجح” للسيطرة الواسعة للجماعات الإرهابية في ريف المحافظة، والقدرة الكبيرة على تهديد المحافظات الثلاثة المتاخمة لإدلب حلب وحماه واللاذقية، وإلى جانب الآثار السلبية ديموغرافياً وإقتصادياً ومعنوياً لهذه السيطرة… والخطر الكامن على وحدة التراب السوري في حال نجاح أدوات الغزو هذه بالسيطرة والتمسك بمواقعها… وهنا أود أن أفصل بعض الشيء.
يمني حلف العدوان النفس بالسيطرة نهائيا على محافظة إدلب وتحويلها إلى قاعدة خلفية لهجوم واسع نحو محافظة حماه ليشكل طوق حول مدينة حلب مع المجموعات الإرهابية القادمة من العراق ومحافظة الرقة، وبهذا يتم شطر سورية إلى نصفين، وتعزل حلب وعموم شمال وشرق سورية عن العاصمة… ويمكن تلمس هذا الهدف الخطير ببعض التحركات في البادية السورية قريباً من حمص، والهجمات المتكررة على ريف حماه، والإستماتة للسيطرة على مدينة إدلب. وأما لناحية مجرياتها، فقد قام تحالف العدوان على سورية وتحديداً تركيا ومملكة آل سعود وقطر بتسخير إمكانات كبيرة جداً لهذه المعركة، كتوحيد عشرات الفصائل الإرهابية وإستجلاب مجموعات من القوقاز أحضرت خصيصاً لهذه المعركة للحصول على أكبر حشد ممكن، بشريّاً ومعدات قتالية وقيادات إرهابية محترفة ومعلومات إستخبارية واسعة… كلّ ذلك وضع تحت قيادة غرفة عمليات إستخبارية تركية. لقد كانت القيادة السورية أمام واحد من خيارين، التشبث بالمدينة بصرف النظر عن الخسائر البشرية الفعلية والممكنة بين صفوف المدنيين والعسكريين، خصوصاً إذا علمنا بأن المدينة المحاصرة من ثلاثة جهات على الأقل تعرضت خلال ساعات معدودة لأكثر من الف قذيفة وصاروخ، ولتحرك مجموعة من الخلايا الإرهابية النائمة التي عملت على بث الشائعات وروح الإحباط ومشاعر الخوف… ومهاجمتها بعض خطوط الدفاع عن المدينة والمراكز القيادية والحساسة… والأمر الذي كان ينذر بوقوع مجزرة حقيقيّة في المدينة يذهب ضحيتها ألآف المدنيين والعسكريين. والخيار الثاني يتلخص بتنفيذ إنسحاب آمن قدر الإمكان للمدنيين والعسكريين والتمركز على أطراف المدينة منعاً لتمدد الجماعات الإرهابية ومشاغلتها على نحو دائم يمنع تمركزها وتخندقها بشكل جيد، إلى حين القيام بهجوم مضاد يخلص المدينة من هذا الإحتلال التركي المباشر، وكانت الغلبة للخيار الثاني.
كلمة أخيرة: إنتصارنا في أي معركة من هذه المعارك الثلاثة سيشكل دفعاً قويّاً للإنتصار في المعارك الأخرى، لأن جبهة العدوان واحدة، وإستراتيجيتهم واحدة، وأهدافهم واحدة… وما يقوم به الجيش العربي السوري والقوى الرديفة له في محافظة إدلب وحماه وحلب وصولاً إلى دير الزور، وما يتم الترتيب له بخصوص هذه المعركة مع الميدان الإقليمي وخصوصاً على المسرح العراقي، ينذر بمعركة كبرى بدايتها في ريف إدلب ولكن نهايتها ستكون أبعد وأعمق بكثير.
أعتقد بأن التعامل الجزئي مع تطورات الميدان وخصوصاً على المسرحين السوري والعراقي لم يعد مجدياً ولا مقبولاً، نحن بحاجة إلى خوض معارك إستراتيجية تسقط المشاريع وتنهي مراحله الواحدة تلو الأخرى، كما جرى في القصير وتكريت. وعند النظر إلى حركة الجيش العربي السوري، وخصوصاً حول مدينة إدلب، وخطوط هذه الحركة، ندرك أن شيء من هذا العيار قد بدأ.