تونس تعود إلى علمانيتها
صحيفة البعث السورية-
رغد خضور:
لطالما كانت تونس نموذجاً لإعمال العقل بلا تحفّظ، وذلك من خلال اعتمادها على الحداثيين والعلمانيين في الإشراف على مؤسسات الحكم والتعليم والثقافة منذ عهد الرئيس الحبيب بورقيبة وحتى زمن الرئيس زين العابدين بن علي.
ومنذ استقلال تونس، سار بورقيبة بخطا ثابتة نحو علمنة الدولة في إطار من الحداثة دون تجاوز لثوابت الإسلام الذي يعد الدين الرسمي للبلاد بحسب الدستور، أو صنع قطيعة معه، لكنه بالمقابل عدّل القوانين المتعلقة بالأوقاف، واستعاض عن جامعة الزيتونة التي كانت تقوم على ربط الدين بالتعليم بكلية اللاهوت المتكاملة في جامعة تونس، ووحّد بورقيبة النظام القانوني ليتمكن جميع التونسيين من الخضوع لمحاكم الدولة، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية، ومن أبرز ما عمل عليه كان إصدار قانون الأحوال الشخصية الذي شمل مجموعة من القوانين التي تتعلق في المقام الأول بحماية المرأة وضمان حقوقها، واستمر بعده بن علي في هذا النهج.
وكان لسياسة الرئيسين بورقيبة وبن علي أثر كبير في تغيير أفكار النخب والشعب اعتماداً على مؤسسات الدولة، وأفرزت قيادات فكرية وثقافية وسياسية حاولت تأصيل العلمانية التونسية.
وبعد زيادة المشاكل الاقتصادية في تونس، ظهرت جماعات وحركات “إرهابية” أعادت إحياء التعليم الديني في العديد من الجامعات، وعلى رأسها جامعة الزيتونة التي نشط فيها الكثير من أعضاء جماعة “الإخوان المسلمين” الإرهابية، وهذا ما أدى لتراجع علمنة الدولة بفضل زعماء تلك الأحزاب الذين عملوا على مكافحة هذه الأيديولوجية.
ومع تفاقم الأوضاع، كانت تونس من أوائل الدول التي استهدفت ضمن ما يسمى “الربيع العربي”، وإثر ذلك دخلت تلك الجماعات ذات التوجه الديني إلى المشهد السياسي، متمثّلة بـ “حركة النهضة”، وأحزاب أخرى، واستطاعت أن تسرق مطالب التونسيين وأحلامهم، وتوجّهها بما يخدم مصالحها.
وتشير التقارير إلى أن أعداد المتطرفين المنضمين إلى تنظيمي “داعش” و”جبهة النصرة” من التونسيين زادت بشكل كبير بعد استيلاء “النهضة” على مفاصل القرار والحكم في البلاد، لكن التونسيين كانوا متيقظين لمخططات تلك الحركات، وهذا ما أوصل إلى الانتخابات الرئاسية التي تولى إثرها قيس سعيد رئاسة البلاد، وأنتجت خارطة مختلفة في المشهد السياسي التونسي.
وعليه بدأ الرئيس سعيد باتخاذ العديد من الإجراءات لتعزيز خطاب الدولة، وحماية الدستور، وإعادة تنظيم المرحلة الأخيرة لردم الحفر التي تسلل منها تنظيم “الإخوان” الذي أغرق تونس بالمزيد من الإخفاقات الاقتصادية.
وبعد انتهاء دور المنظمات السياسية الفاسدة التي أوصلت البلاد إلى وضع لا تحسد عليه، كان لابد من إعادة بناء الديمقراطية في تونس على أسس صحيحة، بعيداً عن أية انتماءات حزبية، أو اصطفافات وراء توجّهات سياسية معينة، لذا اختار سعيد نجلاء بودن من خارج المشهد السياسي لتشكيل الحكومة، كأول امرأة في تاريخ البلاد تكلّف بذلك، في رسالة تؤكد أن الإرث البورقيبي مستمر من أجل الدفاع عن المجتمع التونسي ضد غزو الأسلمة السياسية والدستورية.