تناقص بالقوات البحرية والجوية: أمريكا تواجه أسوأ مشكلة تجنيد منذ حرب فيتنام
موقع العهد الإخباري-
د. علي دربج:
يبدو ان التراجع الذي بدأ يضرب الولايات المتحدة على الاصعدة كافة، قد أصاب هذه الايام رمز قوتها وهيبتها وتسلطها على العالم، ونعني به الجيش الأمريكي الذي يعيش أوقاتا عصيبة، على مستوى التجنيد العسكري.
يكشف آخر التقارير لهذا العام أن القوات المسلحة الامريكية تعاني من نقص كبير في عمليات التجنيد الاختياري في جميع المجالات تقريبا – وهو عجز يصل الى الآلاف من “القوات المبتدئة” التي يحتاجها الجيش الأمريكي سنويا.
يتسبب هذا التراجع في صفوف الامريكيين الراغبين بالتطوع بالجيش، بقلق المسؤولين في وزارة الحرب الامريكية، ويعتبر أسوأ من أي وقت مضى منذ ما بعد حرب فيتنام مباشرة (بحسب اعترافات المسؤولين الامريكيين انفسهم)، وبات يولّد شعورا بالاسى والمرارة لدى قادته، ويساهم في شغور الوظائف الحساسة، فضلا عن انه يؤثر على عديد بعض الفرق والفصائل العسكرية، التي أصبحت تعاني من نقص فعلي.
ماذا عن الأرقام الحالية للتجنيد في الجيش الامريكي؟
بالرغم من النظرة الايجابية للجيش لدى الامريكيين، فإن مسألة الاحجام عن التجنيد تضرب صورته وسمعته، خصوصا إذا ما عرفنا انه وحتى أواخر حزيران/ يونيو الفائت، لم تكن المؤسسة العسكرية الامريكية، قد جندت سوى نحو 40 بالمائة، من أصل 57 ألف جندي جديد، مطلوب تجنيدهم بحلول 30 أيلول/ سبتمبر المقبل، اي نهاية السنة المالية.
علاوة على ذلك، كشف متحدث باسم البحرية وسلاح مشاة البحرية الأمريكية أن ” القوات البحرية، ومشاة البحرية لا تنشر أرقام التجنيد قبل نهاية السنة المالية، لكن كلاهما أقرّ، بأنه سيكون من الصعب عليهما الوفاء بالحصص (اي الأعداد التي هم بحاجتها) هذا العام.
ليس هذا فحسب، حتى القوات الجوية، التي نادرا ما واجهت صعوبة في جذب المواهب في الماضي، تعاني من جهتها تراجعا يقدر بنحو 4000 مجند، عن المستوى الذي تصل إليه عادة بحلول منتصف الصيف.
وتعقيبا على ذلك، لخص الميجور جنرال إدوارد توماس جونيور، قائد خدمة التجنيد بالقوات الجوية هذه المشكلة بالقول “نحن في معركة أسبوعية من أسبوع لآخر. نأمل أن نتمكن بالكاد من القيام بمهمة هذا العام، لكن هذا غير مؤكد.”
ما هي أسباب الإحجام عن التطوع في الجيش الامريكي؟
في معرض تبريرهم لهذا الاحجام عن التجنيد من قبل الامريكيين، يذكر المسؤولون حججاً وذرائع عدة، غير انهم يتعمدون تجاهل واخفاء السبب الاساس لهذه المشكلة، الا وهو التدخلات والحروب العسكرية الفاشلة التي شنتها أمريكا على اكثر من منطقة ودولة في العالم، وأدت الى إيقاع خسائر كبيرة في صفوف المجندين الامريكيين (الالاف منهم قضى بين قتيل وجريح ومعوّق) خصوصا في العراق وأفغانستان، إضافة الى النقمة التي احدثتها هذه الارقام لدى الرأي العام الامريكي.
وانطلاقا من هذه النقطة السوداء في سجل الجيش الامريكي، اكتفى قادة القوات المسلحة الامريكية، بإبراز عدد من العوامل التي زعموا انها لعبت دورا رئيسيا في ازمة تراجع التجنيد العسكري في الولايات المتحدة ـ دون التطرق الى الحروب ـ واوجزوها بالاتي:
اولا: مشكلة كوفيد-19 التي أبقت مسؤولي التوظيف (ولمدة طويلة نوعا ما) بعيدين عن معارض المقاطعات، ومهرجانات الشوارع، ومناطق الصيد (كما يسمونها) الأكثر إنتاجية، وهي المدارس الثانوية. ونتيجة تلك الجائحة، لم يتمكن مسؤولو التوظيف في الجيش، من مدّ جسور العلاقات، والتواصل المادي المباشر وجها لوجه، مع المواطنين الأمريكيين خلال المراحل المبكرة من الوباء، وهو ما انتج جفافا وجفاء من قبل الخريجين الثانويين تجاه الجيش. ثم جاءت قضية التلقيح الإلزامي داخل المؤسسة العسكرية، لتجعل نسبة يُعتد بها من الامريكيين، يصرفون النظر نهائيا عن فكرة الانتساب للجيش.
ثانيا: توجّه المواطنين الامريكين نحو سوق العمل الحالي الملتهب، بعد التعافي من جائحة كورونا، خصوصا مع وجود العديد من الوظائف الشاغرة في قطاعات مختلفة، حيث إن ارتفاع أجور المدنيين والمزايا التي تعطى لهم، تجعل الخدمة العسكرية أقل إغراءً.
ثالثا: الاتجاهات الديموغرافية الأطول أجلا، التي تؤثر سلبا أيضا على التجنيد في أمريكا. فهناك أقل من ربع الشباب الأميركيين البالغين، تنطبق عليهم مواصفات التجنيد خصوصا على الصعيد البدني، وليس لديهم سجل إجرامي يمنعهم من التطوع في الجيش. لكن المثير في الامر، ان هذه النسبة تقلصت باطراد في السنوات الأخيرة.
رابعا: بقاء عثرة التوظيف على حالها، بالرغم من ان الإعلانات السريعة التي عرضها الجيش للترويج للخدمة العسكرية ومن ضمنها عرض فيلم Top Gun: Maverick ساعدت قليلا.
خامسا: العامل الصحي، في السنوات الأخيرة، وجد البنتاغون أن حوالي 76 بالمائة من البالغين الذين تتراوح أعمارهم بين 17 و 24 عامًا، يعانون من السمنة المفرطة، أو ان لديهم مشاكل طبية أخرى، أو تاريخ إجرامي يجعلهم غير مؤهلين للخدمة.
سادسا: وهو الاهم ، معضلة قضية تغيير المواقف تجاه الخدمة العسكرية، او ما يسميه الجيش بـ”الميل” – نسبة الشباب الذين قد يفكرون في الخدمة – والذي انخفض بشكل مطرد لعدة سنوات. ولهذا قال الجنرال توماس إنها كانت تقف عند 13 بالمائة قبل أن يبدأ الوباء، لكنها انخفضت الآن الى 9 بالمائة، اي أن ما يقارب 1 فقط من كل 10 شباب، يقولون الآن إنهم سيفكرون في التجنيد.
ما هي الحلول التي وضعها الجيش لمواجهة هذا النقص في التجنيد؟
عبّر الجنرالات الامريكيون عن مخاوف أكبر وأطول أمدا، بشأن تقلّص عدد الشباب الأميركيين القادرين والراغبين في الخدمة، حيث تضاءلت مستويات الثقة بالحكومة الأمريكية والجيش، وأصبحت اقل عما كانت عليه في السابق.
بالنسبة لهؤلاء الجنرالات، لم يكن الحفاظ على واحد من أكبر الجيوش في العالم بالكامل بمتطوعين، أمرا سهلا على الإطلاق. زد على ذلك انها ليست المرة الأولى التي يعاني فيها الجيش هذا التراجع في نسبة المجندين، منذ 49 عاما، بعد أن أنهت الولايات المتحدة مشروع التجنيد الإلزامي في العام 1973، والذي انتهى بالفشل الذريع.
وبناء على ذلك، استخدم الجيش ـ سعيا منه للتنافس مع اصحاب الوظائف ـ تكتيكين اثنين:
الاول، وضع المكافآت، ورفع الأجور وغيرها من الإغراءات.
الثاني: خفض المعايير قليلاً لتجنيد الأشخاص الذين قد لا يكونون مؤهلين.
ولهذه الغاية، وفي محاولة لمواجهة هذا النفور من التجنيد، أعلن الجيش الأمريكي عن رزمة من المحفزات والمغريات لجذب الأميركيين الى الجيش، حيث وضع القائمون على المؤسسة العسكرية الامريكية، مكافآت للتجنيد، تصل إلى 50 ألف دولار، كما عمدوا الى تقديم مبالغ نقدية “سريعة” تصل إلى 35 ألف دولار لبعض المجندين الذين يلتحقون بالتدريب الأساسي في غضون 30 يوما.
أكثر من ذلك، وفي خطوة من شأنها ازالة جميع العوائق او الاسباب المنفرة من امام الأمريكيين بهدف توسيع قاعدة التجنيد، خففت فروع الخدمة العسكرية بعض القيود الى كانت تفرضها في السابق، وفي مقدمتها وشم الرقبة، إضافة الى معايير الأخرى. اما ذروة هذه الاجراءات فكانت في حزيران الماضي، عندما أسقط الجيش لفترة وجيزة شرط الحصول على شهادة الدراسة الثانوية، قبل أن يقرر أن هذه خطوة سيئة، ويعمد الى الغائها، نظرا لتداعياتها السيئة على الجيش الامريكي.
في المحصلة، يقّر الخبراء العارفون بأحوال الجيش الامريكي، ان الحروب والغزوات الامريكية هي التي ساهمت بهذا النقص الحاصل والذي ادى الى تقلص حجمه، إذ يبلغ عدد أعضاء الخدمة الفعلية الآن حوالي نصف ما كان عليه في الثمانينيات، ومن المتوقع أن يستمر في التناقص.