تموز 2006.. «المغامرون» هم الحل – عبد الله زغيب
لم تبدُ «نخب العرب» على ذاك القدر من الدراية والإدراك، كما كانت في بدايات المعركة الكبرى بين الجيش الإسرائيلي ومقاتلي «حزب الله اللبناني» منتصف تموز 2016. في السياسة وإدارة الأزمات، أظهر قادة «الاعتدال» قدرة هائلة على استشعار المخاطر الكامنة، في ضوء الصعود القياسي للتنظيم اللبناني الإسلامي المسلّح، صاحب الامتدادات العربية (سوريا) والإقليميّة (إيران). فقادة المحور غير «المارق» وغير «الشرير»، كانوا الأكثر تمرساً في عمليّة الخروج بتقدير «رصين» للموقف بناء على إرهاصاته قيد الصناعة في ذلك الوقت. فالبديهي في العقل العربي النخبوي الجمعي أن «صعود» «حزب الله» دخل في طريق باتجاه واحد لا عودة عنه. وهو يقود التنظيم لحالة «تضخمية» تتفاعل بسرعة هائلة مع تطورات الإقليم. وفي المحصلة ستفضي إما لتحويله الى «فقاعة» عسكرية وعقائدية تتسبّب بانفجاره «داخلياً»، أو إلى كتلة «صلبة» عصيّة على التحلل بالمدى «المقدّر» والمنظور في ظل عناصر القوة والضعف الحاليّة.
لم تكن القراءة «الرسميّة» العربية للواقع الاستراتيجي وقتها منطلقة من فراغ أو رعونة. فغالبية الأنظمة المنخرطة في المعترك الإقليمي، والتي تحوّلت حليفاً «موضوعياً» للمنظومة الأميركية في المنطقة، بنت «رؤيتها» للحاضر والمستقبل انطلاقاً من مبررات وجودها وقدرتها على استيلاد «دورات نخبوية» مقفلة، وخاضعة لقوانينها المرتكزة الى مصالحها ورغبتها بالاستمرار، خصوصاً أن سرديّة «النشأة» الخاصة بالغالب من هذه الأنظمة، تقوم على أنقاض «مغامرين» سابقين كـ «حزب الله»، وإن بمقياس أكبر وأوسع وأثقل في الأبعاد التاريخية. وعلى هذه الشاكلة بدا الرئيس المصري في ذلك الوقت حسني مبارك، وهو يلاقي ملك السعودية الراحل عبدالله بن عبد العزيز بقوله إن لا مكان للمغامرين في «هذا» الزمن. فمبارك ورث القيادة من «النخبة» التي استكملت عملية تحليل وتمييع الموروثات «الأخلاقيّة» والسياسية وحتى العقائدية، التي بنتها زعامة الراحل جمال عبد الناصر ومشروعه «المغامر».
آثر «النظام» الرسمي العربي الركون طوال العقود الماضية إلى قاعدة بسيطة، مفادها أن الوقوف في وجه الغرب «القويّ والمقتدر» لا يمكن إلا أن يثمر انكساراً مدوّياً في نهاية المطاف. لذلك بدا العمل في ظل منظومته السياسية والاستراتيجية أكثر دسامة من الدخول في متاهات المصالح «النهائية» بأبعادها القومية والوطنية. وبما أن «مقياس» البقاء يمكن أن يمتدّ لعقد أو اثنين وحتى أربعة، بدت القراءة أكثر «فوقيّة» في نظرتها وتقييمها للحالات «المغامرة»، والأمثلة في «المكتبة» التاريخية العربية كانت من أهم المعطيات التي دعّمت المنظور الرسمي، القائم على نسخ مختلفة ومتعدّدة من «نظرية الاعتدال» منذ اندثار الدولة العثمانية. فثورة محمد عبد الكريم الخطابي استمرّت على الاستعمارين الاسباني والفرنسي في المغرب لنصف عقد فقط. وثورة عمر المختار ضد الاستعمار الإيطالي لليبيا استمرت لعقدين فقط. وغيرها من الأمثلة رسخت في عقل «القيادة العربية» قناعة مفادها أن «الثورة الدائمة» لا يمكن أن تتخطّى في حدودها القصوى مجرد كونها نظرية «رومنسية»، لا تخضع لحسابات الواقع. لهذا بقيت حكراً على «النظرية» لدى منظّرين كتروتسكي وغيره. كذلك كانت فكرة أن «النهائية» فقط هي للمشروع القادم من الغرب، وأن «المغامرات» بمغامريها لا يمكن أن تنتج حالات «مستقرة» قابلة للبقاء في ظل منظومة «التفوق» الغربي.
جاءت الحرب على لبنان العام 2006 لتعزز القراءة العربية الرسمية هذه، خصوصاً أنها تلت دخول المنطقة في مشروع «الفوضى» الأميركية الخلاقة، وانقسامها وفقاً للقاموس الاصطلاحي الذي سنّه جورج بوش الابن، ما بين صالح وشرير أو مارق وثابت. فالعراق وقتها كان قيد التفتت والانهيار، في ظل العملية «القسريّة» لاستبدال النخب التي أطلقتها واشنطن بمباركة عربيّة وإقليميّة منقطعة النظير، وبعد سنوات كذلك من انهيار حركة «طالبان» الأفغانية، بما تمثل من حاضنة للمشروع الإسلامي «الراديكالي» المعادي للأميركيين والغرب عموماً، وفي ظل سياسة «الاحتواء» الأميركية في مواجهة إيران، والتي كان من صورها اللبنانية عمليّة «إخراج» الجيش السوري من لبنان والتسويق للقرار الأممي 1559. هكذا بدت العناصر الإقليمية مجتمعة أكثر وضوحاً ودلالة على أن «الحتميّة» الأميركية ما زالت في أقوى مراحلها «الزمنيّة»، وأن السير في اتجاه معاكس لـ «الإرادة» الدولية لن يفضي إلا إلى نتائج «كارثية» على السائرين. لذا كان «حزب الله» مغامراً في تلك اللحظة بالمنظور الرسمي، وأكثر ميلاً نحو إعادة إنتاج نماذج «شعبوية» ورومنسية، إنما «هشة» وغير قابلة لتقديم «مشروع» متكامل وقابل للاستمرار، خصوصاً أن إسرائيل هذه تمكّنت طوال العقود الماضية من «قبر» مجموعات كاملة من المشاريع والأحلام والشخصيات، وحتى الفئات المجتمعيّة التي آثرت «المغامرة» واختارت السير بشكل طبيعي مع قانون الفيزياء الأول، القائل بأن لكل فعل «ردّ فعل».
على هذا المنوال واصلت «نخب» الأمة السير هي ذاتها باتجاه واحد لا رجعة عنه، قادها إليه الميل «الغريزي» الأول في عالم النخب، وهو «البقاء». وبما أن البقاء للأقوى، فلمَ لا تكون «النخب» هذه مجموعة متكاملة من المخلوقات الفطرية صاحبة الاتصال «العضوي» بالجسد القوي. هكذا استمرت في تدوير الزوايا وتحوير العقيدة وإعادة إنتاج الأدبيات القوميّة والإسلامية والمذهبية، واجترار القاموس الأخلاقي «الوطني» غير المبرّر بما يخدم البوصلة الأميركية، طالما أن الرحلة واحدة والقبطان واحد. لكن ما فات حكام «الأمة» أن مقياسها الزمني هي الأخرى ليس واسعاً بما فيه الكفاية للخروج بقراءة صاحبة مردود «تاريخي»، يعود على الأجيال الممتدة بنتائج قد لا تتمكّن الأجيال القائمة من التلذّذ «بسلامها وطمأنينتها». وهي عملية طويلة ومتشعبة تنطوي على مخاطر هائلة على منظريها ومنفذيها، وتتطلب صبراً وقدرة على تلقي الضربات والخيبات والنكبات والنكسات والهزائم، لكنها قبل أي شيء آخر، تتطلب قدراً كبيراً من «المغامرة» وعدداً كبيراً من «المغامرين».
نعم، «غامر» «حزب الله» اللبناني في أسره جنود الاحتلال في شهر تموز ذاك، وغامر أمينه العام السيّد نصرالله في تحدي الجيش الإسرائيلي للنزول إلى الميدان وخوض غمار الحرب البريّة. وكذا فعل المغامرون في فلسطين من التنظيمات المقاومة كافة قبل أن يتأسس «حزب الله» وبعده. كما غامرت مصر بقيادة عبدالناصر وسوريا بقيادة حافظ الأسد في قتال إسرائيل. يُضاف الى ذلك آلاف المغامرين من مختلف أنحاء العالم العربي من الذين تطوّعوا فردياً أو حتى انخرطوا في القتال بتوجيهات حكومية في معارك «الطوق»، ودفع الآلاف حياتهم ثمناً لمغامراتهم. لكنهم في نهاية المطاف راكموا سياقاً مختلفاً تماماً عن «الحتميّة» التي ترسّخت في عقليّة القيادة العربية، وأنتجوا مجتمعين حالة من الرفض والمشاكسة، تطورت في مسارها التاريخي لتصبح واقعاً مختلفاً، له «حتميّته» غير الخاضعة لإسقاطات الغرب ونهائية نفوذه في المنطقة. وهكذا، وفي نتاج مباشر لمعركة تموز التي خسرت فيها «نخب» الأمة «قبعتها» الأخلاقية بعد اختفائها المباغت، مضافة اليها حروب غزة التي دعّمت تفوق «المغامرين»، بدت المنطقة أكثر انفتاحاً على بدايات جديدة، تتفسخ فيها منظومة التفوق الغربي، بمعزل عن كبار أو صغار «الورثة» مهما تناقضات مشاريعهم وخلفياتهم.
هُزم المشروع الإسرائيلي في آب من العام 2006، وهُزم المشروع الأميركي في العراق المشتت والمحتل، الى أن جاءت فوضى «الربيع العربي»، لتفتح صفحة جديدة من التطبيق العملي لنظرية الفوضة «الخلاّقة». لكن المختلف هذه المرة أن ورثة المغامرين في العراق والشام واليمن تمكّنوا من إنتاج عملية تكاثر لم يستشعر الأميركي ولا حلفاؤه في المنطقة بمدى ثقلها وخطورتها على مسار فوضاه، وفي ظل تناقض بل وعداء هائل بين مكونات «المغامرين». إلا أن نتاج تواجدهم على الجبهات ذاتها قاد إلى قناعة أميركية بضرورة «الانكفاء» النسبي، بمعزل عن النظرة لصراعات المحيط الهادئ، وبقراءة «باردة» لأحوال المنطقة التي تنوعت فيها الجبهات وكثر فيها المنخرطون بشكل يتخطى ثقل الشرق الأوسط في حسابات «المغامرة» الأميركية الكبرى بحد ذاتها. فوجد ورثة أصحاب نظرية «المغامرة» أنفسهم في قلب عالم «جديد»، بات فيه للمغامرين «أرض» آمنة وخلفيّة مدعمة، بل وحتى مشروع استراتيجي متكامل إذا ما استثني تنظيم «الدولة الإسلاميّة» من هذه المجموعة، وعناصر قوة كانت للأمس القريب حكراً على النظام الرسمي المرعيّ من الغرب، فأصبح النظام العربي الرسمي أكثر حاجة من أي وقت آخر لاستخدام ورقة «المغامرة» في ظل انسلاخه النهائي عن مكوّنات أساسية من الأمة. وفي هذا السياق، جاءت مغامرات اليمن وليبيا وقبلهما البحرين والتحالف مع اسرائيل علانيّة، وكذلك الانخراط في الداخل الإيراني من خلال جماعة «مجاهدي خلق».