تمرّد “فاغنر”: شرٌ لا بد منه
موقع العهد الإخباري-
حيّان نيّوف:
ما جرى في روسيا كان سيحدث عاجلاً أو آجلاً، فليس كلّ الروس بالمطلق يوالون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ويؤيدون توجهاته، في روسيا شريحة لا بأس بها تتناغم مع الثقافة الغربية وتوجهات الليبرالية الجديدة، هذه الشريحة وإن كانت أقلية لكنها موجودة. وقد يكون من حسن حظّ موسكو أن يتمّ تظهير ما هو منتظر بصيغة عسكرية أو تحت عنوان تمرد عسكري، ذلك أن تظهيره مدنيا سيكون له عواقب أشد وطأة وتأثيرا على الإنقسام الداخلي.
ومما لا شك فيه ان الإستخبارات الروسية كانت على علمٍ مسبقٍ بنوايا رئيس شركة “فاغنر” “يفغيني بريغوجين”، يؤيد ذلك الإجراءات المتخذة في الأسابيع القليلة الماضية والمتعلقة بإصدار أوامر لإلزام المقاتلين من خارج ملاك القوات المسلحة الروسية بإبرام عقود مع وزارة الدفاع الروسية، كما تؤيده سياسة الهدوء والتروّي التي أظهرها بوتين والقيادة العسكرية والأمنية الروسية في التعاطي مع مع تمرّد بريغوجين العسكري.
يمكن القول بأن السبب المباشر لتمرّد “بريغوجين” يتمثل بصدور أمر ينص على أنه يجب على جميع أعضاء ما تسمى “بوحدات المتطوعين” أن يوقعوا عقودا بحلول الأول من تموز/يوليو لإخضاعهم لسيطرة وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، حيث تهدف موسكو لإحكام سيطرتها على القوات الخاصة التي تحارب معها في أوكرانيا، مقابل حصول المقاتلين المتطوعين على جميع المزايا والضمانات التي تحصل عليها القوات النظامية، بما في ذلك تقديم الدعم لهم ولعائلاتهم إذا أُصيبوا أو قتلوا، وكانت قوات “أحمد” التي يرأسها الزعيم الشيشاني رمضان قاديروف قد قامت بتوقيع عقد مماثل مع وزارة الدفاع الروسية، فيما رفض قائد “فاغنر” التوقيع على نفس البنود.
لم يكن بريغوجين على علاقة جيدة مع وزارة الدفاع الروسية، و بدأت مظاهر التوتر بينه وبين وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو بالظهور للإعلام منذ ثلاثة أشهر، ويبدو أن بريغوجين كان يعلم بخطط وزارة الدفاع التي تهدف لتكبيل قرارات وتحركات “فاغنر”، والسعي لإخضاعها وعناصرها لشروط وأوامر القيادة العسكرية الروسية، وهو ما دفعه لإطلاق تصريحات متكررة بدأها منذ ثلاثة أشهر وخلال معركة تحرير “باخموت”، تضمنت هذه التصريحات انتقادا لاذعا لأداء وزير الدفاع الروسي وصلت حد المطالبة بعزله.
وما بين انجاز تحرير اخموت”، و إفشال الهجوم الأوكراني المضاد، جرت عملية الإستغناء تدريجيا عن مقاتلي “فاغنر” في الخطوط الأمامية للجبهة، فبعد إعلان بريغوجين سحب قواته من ب”اخموت” تولت القوات المسلحة الروسية التابعة لوزارة الدفاع إفشال الهجوم الأوكراني المضاد على كامل خطوط الجبهة دون الإستعانة بقوات “فاغنر”، و يبدو أن هذا الأمر زاد من حنق بريغوجين الذي كان يظن بأن القوات الروسية لا يمكنها القتال بدون قواته أو تحقيق نصر على الأرض.
كل ذلك دفع بقائد فاغنر للتفكير باللجوء إلى مغامرة أقل ما يقال عنها أنها حمقاء، توجه بريغوجين بقواته من أوكرانيا الى الداخل الروسي وتحديدا الى مدينة روستوف الإستراتيجية في الجنوب الغربي لروسيا واستولى على مقر قيادة العمليات العسكرية المختصة بالحرب في أوكرانيا معلنا منها تمرده المسلح قبل أن يأمر قواته بالتوجه شمالا نحو العاصمة موسكو.
ما لم يتوقعه بريغوجين هو أن يكون دخول قواته لمدينة روستوف وتوجهها شمالا وعبر طرق مكشوفة قد أنجز بدون أية مواجهة أو اشتباك مع القوات الروسية بكل صنوفها، بالرغم من أن الطيران الروسي كان بإمكانه سحق أرتال “فاغنر” أثناء تحركها لكنه لم يفعل ذلك.
ربما أدرك بريجورين باكرا بأن مخططه و تمرده قد فشل منذ اللحظة التي أتيح له فيها التحرك بحرية، وتم تفويت الفرصة عليه لإحداث بلبلة واضطرابات و ربما اقتتال في الداخل الروسي، فكان لا بد له من انتظار خطاب الرئيس بوتين الذي تصرف بحنكة وحكمة وصبر، وخرج بخطاب حاسم وصف فيه تمرد بريغوجين بالخيانة وأنه يمثل طعنا في ظهر القوات المسلحة وروسيا، قبل أن يعود لاحقا ويؤمن له سلّما للنزول عن الشجرة التي صعد إليها بغبائه، وذلك عبر صديقه الرئيس البيلاروسي “ألكسندر لوكاشنكو” لتنتهي المغامرة الفاغنرية بقرار انسحاب قواتها من المناطق التي دخلت إليها وترحيل لقائدها بريغوجين إلى بيلاروسيا.
لا شك أن قرار بوتين كان حكيما، وأنقذ روسيا من مغامرات قد تكون غير محسوبة النتائج في الوقت الذي تتعرض فيه روسيا لهجمة شرسة من الغرب الأطلسي تستهدف وجودها ووحدتها، ليس في أوكرانيا فحسب، بل على امتداد ساحات المواجهة في شرق اوروبا وآسيا الوسطى والقوقاز وأفريقيا والشرق الأوسط.
ربما لم ولن تتاح الفرصة للغرب الأطلسي للاستثمار في “تمرّد فاغنر الفاشل” على المستوى الداخلي الروسي أو على مستوى جبهة الحرب الأوكرانية، وغالبا فهو لن يستطيع ذلك لأسباب متعددة.
لكنه ــ أي الغرب الأطلسي ــ لن يفوّت الفرصة للتأثير على النفوذ الروسي في ساحات خارجيّة ذكرناها آنفاً. لذلك فإنّ حلفاء روسيا مطالبون اليوم باليقظة و الإسناد لأجل أنفسهم ولأجل حليفهم، وفي منطقتنا فإنّ حلف المقاومة سيكون مطالبا بجاهزية عالية استعدادا لكلّ الإحتمالات، بل إنّه قد يجد نفسه مضطرا لإحداث ضغط استباقي على الأمريكي في الإقليم، كما أن القيادة الروسية وبعد إفشال التمرّد “الأحمق”، ستجد نفسها أمام امتحان استعادة الهيبة، وأيضاً سيجد عناصر “فاغنر” أنفسهم أمام امتحان إثبات الولاء لروسيا، ولذلك فإنه من غير المستبعد أن تشهد الساحة الأوكرانية مستوىً مرتفعاً من شحنات التفريغ الروسية ، والأمر ذاته قد ينطبق على ميادين المواجهة و خاصة في الشرق الأوسط.
أخيرا؛ ستبقى “فاغنر” تجربة قاسية في ذاكرة الجيوش النظامية العقائدية، وقد يكون من الملائم جدا استذكار كلمات القائد والمجاهد الكبير الشهيد الحاج عماد مغنية (الحاج رضوان): “اللي بيقاتل فينا وبيجاهد فينا مش القدرة البدنية، اللي بيقاتل فينا هو الروحية”.