تكتيك قاسم سليماني في العراق
تتقاطع التقارير في الصحف الغربية مع معلومات الجيش الأميركي بأن قائد «فيلق القدس» اللواء قاسم سليماني زار العراق الأسبوع الماضي.
زيارة تبعها توزيع أدوار عملانية للفصائل العراقية المؤيدة للجيش العراقي في المحافظات والبقع الجغرافية التي تشهد انتشارا لمسلحي تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) وعناصر «جيش النقشبندية» الأشد تنظيما وعنفًا وخبرةً.
للوهلة الأولى، بدا أن المحور الإقليمي الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء نوري المالكي قد تلقى صفعة بسقوط الموصل.
وكانت الأنظار تتجه نحو سوريا ما بعد إعادة انتخاب بشار الأسد، حيث تفترض بعض التوقعات أن تشهد جولات جديدة من المعارك، مع ارتفاع في منسوب الأعمال الأمنية، بهدف قطع الطريق أمام أي حديث عن بلد مستقر في عهد الأسد، والحفاظ على ورقة تفاوض مفتوحة في أي مباحثات بعيدة المدى.
اللافت على امتداد خط المناطق المشتعلة في بلاد الشام أن حرب الوكلاء، التي يقودها المحور الخليجي الأميركي، تعتمد بوضوح على استنزاف إيران. لا مشكلة لدى الأميركيين في أن تطول أزمة سوريا ما دامت بقية الأطراف تدفع ثمن كلفة الحرب. وهكذا لم يقف الأميركيون كثيرا عند الانتصارات العسكرية الموضعية من قبل النظام السوري.
على جبهة العراق، يجدر التوقف عند نقطة مهمة قد تنقلب لغير مصلحة الأميركيين في القريب: مسارعة البيت الأبيض إلى الإعلان عن عدم نيته القيام بعمل عسكري مباشر دعما للحكومة العراقية، برغم اتفاقيات الشراكة الإستراتيجية المعقودة في أكثر من مجال، قد تحرر المالكي من التزامات كانت تشكل مساحة للتراشق بيد خصومه السياسيين.
أما إرسال حاملة الطائرات «يو أس أس جورج بوش» فهو لا يعدو كونه إجراء روتينيا تلجأ إليه البحرية الأميركية في حالات الأزمات، تحت عنوان «حماية المصالح والمدنيين الأميركيين»، مع الإشارة إلى أن حاملة الطائرات هذه كانت في الأساس في مهمة انتشار مقررة منذ شباط الماضي في بحر العرب، وهي لم تتوجه إلى المنطقة من سواحل الولايات المتحدة، بل إن كل ما تم فعله هو إصدار أمر لها بالانتقال من نقطة إلى أخرى ضمن النطاق نفسه لمهمتها التي تنفذها في الخليج منذ أشهر قليلة.
عودٌ على بدء. تعلم محور إيران من درس سوريا، فسارعت القوات الحكومية والفصائل المعنية إلى فتح باب التطوع والتجنيد والتنظيم والتدريب، ونشر العناصر في مناطق انتشار المسلحين.
وإن صحّ كلام الأميركيين عن أن سليماني جال في العراق الأسبوع الماضي أو لم يصح، فإن الإجراءات التي تم اتخاذها سريعا تعكس بوضوح قرارا إقليميا، لا تعني دائرة صناعته حدود العراق فقط، بل تتعداه إلى جميع دول الجوار، لما تحمل أحداث الموصل من دلالات بالنسبة إلى إعادة رسم حدود المنطقة.
وهكذا عاد الحديث الأميركي بقوة خلال هذا الأسبوع عن «المجموعات الخاصة الشيعية» في العراق، مع أن عمليات التجنيد وفتح باب التطوع، الذي تقوده الجماعات الأشد تأثيرا كـ«كتائب حزب الله المقاومة الإسلامية في العراق» أو «عصائب أهل الحق» والتنظيمات الأخرى التي تدور في فلكهما (بما فيها «منظمة بدر» الأكثر انخراطا في العمل السياسي) ولواءي «أبو الفضل العباس» و«عمار بن ياسر» اللذين تشكلّا بداية للقتال في سوريا، مفتوح منذ أشهر تحت عناوين عديدة، من بينها «سرايا الدفاع الشعبي» واللجان الشعبية.
كما أن دور المرجعية الدينية، وعلى رأسها السيد علي السيستاني، كان حاسما وواضحا أكثر من أي مرة مضت في الدعوة إلى «الجهاد الكفائي» بعد بدء أحداث الموصل. وبإمكان الصحافيين الميدانيين في العراق نقل مشاهدات من داخل مساجد رئيسية تتبع لمرجعيات النجف لآلاف الشبان العراقيين الذين لا يريدون تكرار التجربة السورية في بلدهم.
ميدانيا، تفيد مُعطيات من العراق، بأن عناصر نخبة من كتائب «حزب الله في العراق» (وهو فصيل عراقي بالكامل) و«عصائب أهل الحق» وبقية الفصائل تنتشر في مناطق ساخنة وتقود عمليات كر وفر مع «داعش» و«جيش النقشبندية».
ويُسجّل للمالكي استفادته من التجربة السورية في مكافحة الحملة الإعلامية التي تواكب عمل «داعش»، وهي في الحقيقة حملة تستحق الدرس في الحروب النفسية!
خلال الأيام القليلة الماضية شهدت مناطق واسعة من العراق قطع الاتصالات والانترنت، ما أدى إلى احتواء الكثير من الأمور، أبسطها الشائعات التي تحدثت عن تفجير جديد لمقام العسكريين في سامراء.
في موازاة ذلك، لم تخفِ الفصائل الحليفة لإيران حراكها المستجد داخل العراق، بعكس محاولات «تلطيف» مشاركتها في سوريا (يتم تشييع عناصر هذه الفصائل الذين يقضون في سوريا تحت عنوان «شهيد العقيدة والكرامة»)، ما يؤكد على أريحية أكبر في التعاطي مع هذه الأزمة في عقر الدار.
إستراتيجية قاسم سليماني
يُفيد أداء رجل إيران الأقوى في المنطقة أنه قد بنى أوراق قوته في البلدان التي تقع ضمن نطاق مسؤولياته بالاعتماد على حلفاء، لا وكلاء، ينتمون إلى بيئتهم الجغرافية والثقافية، وهم بالتالي أقدر على ممارسة العمل العسكري والأمني في مناطق تواجدهم بعد تلقي الخبرات اللازمة من حليفهم الأكبر.
وقد خَبِر الأميركيون رؤية وأساليب سليماني عن قُرب خلال العقد الأخير، فالرجل المثير للجدل يتولى قيادة «فيلق القدس» أحد ابرز تشكيلات الحرس الثوري المسؤولة عن العمليات الخارجية، وبالتالي فإن العراق وأفغانستان ولبنان وفلسطين وسوريا في صُلب مهامه.
مهام يُقال إنه أفصح عنها بنفسه في رسالة هاتفية قصيرة أرسلها في إحدى المرات إلى الجنرال ديفيد بترايوس أثناء تولي الأخير منصب قيادة القوات الأميركية في العام 2008 في العراق.
وكما هو حال العديد من الشخصيات المحاطة بهالة أمنية في الشرق الأوسط، فإن الكثير من الروايات تُحاك حول سليماني لتلامس حدود الأساطير من قبل أنصاره والشيطنة من قبل خصومه، إلا أن الثابت أن الرجل يتمتع بذكاء غير تقليدي جعلت منه قطبا قادرا على التأثير في أوضاع المنطقة.
وكان لنشأة سليماني في بلدة رابورد في محافظة كِرمان الأثر الكبير في تشكيل معرفته السياسية والاجتماعية. فعلى الرغم من أن ولادته كانت في مدينة قم الدينية، فإن العنصر الأبرز في تشكل وعيه وإدراكه الاجتماعي مستمد من طبيعة رابورد، البلدة الجبلية الموصوفة بطغيان التركيبة العشائرية والقبلية على مجتمعاتها (كما هو الحال في العراق وأفغانستان القريبة إلى بلدته).
وفي حين يشوب فترة مراهقته وشبابه الكثير من الغموض، فإن غالبية التقديرات تشير إلى انه انخرط في «الحرس الثوري» مع بداية الثورة في العام 1979، وعمل في مناصب عدة، حتى تولى قيادة «فيلق القدس» بحلول نهاية العام 1997، أي خلال الفترة التي شهدت صعود حركة «طالبان» في أفغانستان. وقد كان اختياره في تلك الفترة تحديدا مرتبطا أيضا بمعرفته بالتركيبة العشائرية لمحافظة كرمان المحاذية لأفغانستان، وتوليه سابقا مهام لها علاقة بمكافحة تجارة المخدرات والتهريب عند الحدود، فضلا عن خبرته العسكرية في القتال خلال الحرب مع العراق، حيث قاد كتيبة «ثار الله 41» التي شاركت في الكثير من العمليات الكبيرة طوال سنوات الحرب.
ويقول اللواء رحيم صفوي، الذي عاصر فترة تولي سليماني مسؤولية ضبط الأمن في محافظة كِرمان، انه نجح في بسط سلطة الدولة في تلك المنطقة في غضون ثلاث سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة إلى منطقة لطالما عُرفت بأنها خاصرة ضعيفة بالنسبة لإيران.
وشكلّ الاختبار الأفغاني نقطة التحول الأبرز في خبرة سليماني، فالعارف بتعقيدات أفغانستان آنذاك من وجهة نظر القيادة الإيرانية يدرك حجم التحدي. وسرعان ما انتشر حينها 200 ألف مقاتل إيراني على الحدود مع أفغانستان، لكن المفاجأة كانت في أن هؤلاء المقاتلين لم يضطروا لإطلاق طلقة واحدة، بعدما فاجأ سليماني الجميع بإدارة العمليات من خلال دعمه «الجبهة المتحدة الإسلامية لتحرير أفغانستان» (عُرفت أيضا باسم «التحالف الشمالي» وضمت زعماء مثل برهان الدين رباني وعبد الرشيد دوستم) التي تضم فصائل أفغانية عدة متضررة من صعود «طالبان».
ومع بدء الأزمة السورية، كانت الأنباء غير الرسمية في إيران تتناقل خطابات سليماني في محافل داخلية مستنهضا همة الشباب الإيراني.
واليوم، تشكل أحداث العراق ساحة معركة كبرى يبدو أن سليماني يتقنها جيدا، بحكم ماضيه وتجاربه السابقة. ساحة يتواجد فيها الإيرانيون عسكريا بحسب إقرار الأميركيين (يمكن مراجعة تقرير مركز مكافحة الإرهاب في قاعدة «ويست بوينت» العسكرية الأميركية حول تاريخ الجماعات العراقية المدعومة إيرانيا) منذ أكثر من ثلاثين عاما.
ومنذ الأسبوع الأول من حزيران الحالي، تتناقل وسائل إعلام عراقية أنباء عن وجود عناصر من «الحرس الثوري» في العراق. ولئن كانت هذه الأنباء منطقية إذا تم وضعها في سياق رؤية طهران لانقلاب الموصل وتأثيره على ملفات سوريا والأكراد والنفط، فإن أسلوب سليماني، الخبير في نقل «المياه» إلى الجنود في الجبهة كما تحكي ذاكرة الحرب الإيرانية – العراقية، لا يحتمل القتال على أرضه بل يقوم على مبدأ الذهاب إلى أرض العدو، من دون الشعور بأدنى حرج.
صحيفة السفير اللبنانية – علي شهاب