تقويض الأمن الدفاعي الأوروبي عقيدة أمريكية
موقع الخنادق-
زينب عقيل:
بعد الحرب العالمية الثانية، وإشراف الولايات المتحدة على إعادة إعمار أوروبا من خلال خطة مارشال، كانت واشنطن حريصة على إبقاء الأمن الدفاعي الأوروبي تحت سقفها ونفوذها وتأثيرها في أعلى مستوياته. وكانت النتيجة اعتماد أوروبا على الجيش الأمريكي والافتقار إلى القدرات الدفاعية الأوروبية.
واشنطن لم تقرر بعد استراتيجيتها تجاه الدفاع الأوروبي
جوهر القضية هو أن الولايات المتحدة لم تقرر ما إذا كانت تريد أن تظل لا غنى عنها للأمن الأوروبي، أو ما إذا كانت تريد تقليل اعتماد أوروبا عليها، ورؤية حلفائها عبر المحيط الأطلسي يتولون مسؤولية أمنهم. فكلاهما يؤدي إلى خيارات سياسية مختلفة: فإذا اعتمد الأوروبيون على أنفسهم، سيحفّز ذلك تطوير الجيوش والصناعة الدفاعية الأوروبية التي من الممكن أن تُفقد واشنطن تحكمها بالقرار السياسي والدفاعي في أوروبا، أما في حال أرادت واشنطن للدفاع الأوروبي أن يبقى ضعيفًا ومعتمدًا عليها، فستبقى شركات الدفاع الأمريكية على القمة، وسيبقى على الولايات المتحدة فعل الكثير لدعم حلفائها، ورغم ذلك، كشفت حرب أوكرانيا أنّ مصلحة الولايات المتحدة وحروبها أولى من اقتصادات ودفاعات الدول الأوروبية مجتمعة.
التناقض بين الأفعال والأقوال
غالبًا ما تصرّح الإدارة الأمريكية عن إحباطها بسبب الضعف الأوروبي، علمًا أنّ التناقض بين الأفعال والأقوال واضح تمامًا للعديد من المسؤولين الأوروبيين، الذين لطالما واجهوا معارضة من واشنطن عندما كانوا يحاولون “توحيد إجراءاتهم”. يشار الأمين العام السابق لحلف الناتو والممثل الأعلى السابق للاتحاد الأوروبي خافيير سولانا إلى أنه “من المفارقات، في حين تطالب إدارة ترامب بأن نتولى نحن الأوروبيين المسؤولية عن أمننا، فإنها تسعى باستمرار لتقويض كل مشروع دفاعي مشترك نسعى إليه. إن مثل هذا التحيز وقصر النظر فيما يتعلق بالتعاون الأمني الأوروبي ليس بالأمر الجديد”.
الجيشان البريطاني والفرنسي نموذجًا
الواقع أن الولايات المتحدة لم تسمح للأوروبيين للاستثمار في قدراتهم للتقليل من اعتمادهم على الولايات المتحدة. فانصرفت الدول إلى الحدّ من ميزانيات الجيوش كما حصل مع جيش بريطانيا “العظمى”، عقود من التخفيض لميزانيات الجيش بالإضافة إلى النقص في الاستثمار، أدّت إلى جعل القوات المسلحة البريطانية تحتاج إلى 10 سنوات للتجهيز لصدّ أي غزو روسي مثلًا. وفي مراجعة لاذعة للحالة “المؤسفة” للقوات البريطانية، قال القائد السابق لقيادة القوات المشتركة البريطانية السير ريتشارد بارونز لمجلة دايلي ميل البريطانية إن الجيش قد تم تفريغه إلى درجة أنه سيكافح للدفاع عن الأمة دون خطة إنفاق طارئة. وفي نفس السياق، يتساءل قائد المدارس العسكرية للجيش الفرنسي (Ecoles Militaires de Bourges et Ecole du Matériel)، الجنرال إريك لافال، عما إذا كانت القوات المسلحة الفرنسية ستكون قادرة على الاستمرار لأكثر من 48 ساعة في نزاع شديد الكثافة. “اليوم الجيش الفرنسي “جميل”، لكن في ظل نزاع شديد الحدة، هل سيكون قادرًا على الصمود لأكثر من 48 ساعة؟ يتساءل لافال. من جهته يحذّر رئيس أركان الجيوش السابق الجنرال بيير دي فيلييه من مستوى الجيش الفرنسي في حالة الحرب، ويرى أنه لا يملك الإمكانيات الكافية في مواجهة “حرب شديدة الحدة”. كان الجنرال ينتقد بشدة ميزانية الدفاع في بداية ولاية إيمانويل ماكرون الأولى ومدتها خمس سنوات، مما دفعه إلى ترك منصبه كرئيس أركان الدفاع (CEMA) في عام 2017. وأكد خلال مقابلة في صحيفة ” لو باريزيان” أن “الجيوش الفرنسية اليوم ليس لديها الوسائل لشن حرب شديدة الشدة”. ووفقًا له، فإن الحرب في أوكرانيا “يجب أن تجبرنا على تعديل نموذجنا”.
لتطوير الدفاع الأوروبي ولكن بمقدار
تعتبر الحالة الضعيفة والمجزأة لسوق الدفاع الأوروبي، وقوة نفوذ الولايات المتحدة، نعمة لصناعة الدفاع الأمريكية ومبيعات الأسلحة الأمريكية. ولطالما كان هدف المسؤولين الأمريكيين هو أن تفي أوروبا بأهدافها المتعلقة بقدرات الناتو والتزاماتها تجاهها. لكن في نفس الوقت كانت الولايات المتحدة حذرة جدًا من التغيرات التي تحدث داخل أوروبا، والتي من المحتمل أن تؤثر على نفوذها السياسي على القارة بمساعدة حلفائها، كما حصل أثناء الحروب اليوغوسلافية في تسعينيات القرن الماضي، وما ظهر من الأداء الضعيف لأوروبا أثناء أزمة البلقان وبعدها. وقد تجسّد ذلك في عام 1998 في إعلان تاريخي في سانت مالو، عندما وافق رئيس الوزراء البريطاني توني بلير والرئيس الفرنسي جاك شيراك على تشكيل قوة رد سريع قوامها 60 ألفًا من الاتحاد الأوروبي، كردّ فعل على ذلك، بالطبع بعد موافقة الولايات المتحدة.
إعاقة التنمية الدفاعية هي عقيدة أمريكية
كانت معارضة الولايات المتحدة لجهود الاتحاد الأوروبي فعالة للغاية في إعاقة تنمية الاتحاد الأوروبي في مبادرات الدفاع. وكانت أي جهود تطرح من القادة الأوروبيين تعتبر “حمائية وتمييزية”. حتى أصبحت معارضة الدور الدفاعي للاتحاد الأوروبي عقيدة أمريكية، ولم تخلق مساحة للاتحاد الأوروبي لتحسين دفاعه.