تطور وحدة الساحات بين مسارين: فلسطيني داخلي ومحوري اقليمي
موقع الخنادق-
مروة ناصر:
تضع فروع الاحتلال الأمنية ودوائر فكره “سيناريو شديد الاحتمال”، يعترف الاحتلال من خلاله أنّ الحرب المقبلة – أي تلك الكبرى الواقعة لا محالة – هي الحرب متعدّدة الجبهات، ولا يهم أين تُفتتح، عند الجبهة الجنوبية فتلتحق بها تلك الشمالية أو العكس، ثمّ لن يُنتظر طويًلا الى أن تتدخّل دول أخرى من محور المقاومة – بطريقة أو بأخرى – وفي مقدمتها إيران. الاعتقاد العميق لدى أوساط الاحتلال بأنّ تعدّد الجبهات أبعد من استشراف نظري بل له واقعية فاعلية دفعه الى تخصيص مناوراته الأخيرة لمحاكاة هذا النوع من الحرب التي لم يختبرها جيشه سابقًا (مناورة “القبضة الساحقة” 6/2023، ومناورات 5/2023). إنّ هذه القابلية للتحقّق لم تكن لولا وجود مؤشرات ميدانية تترجم معادلة وحدة الساحات، وقد برزت أكثر في المعركة التي تكنّت بهذا الاسم (معركة “وحدة الساحات” في 8/2022) وما تبعها من تسلسل أحداث في الساحة الفلسطينية وارتباطها بمحور المقاومة.
وحدة الساحات في معركة آب / أغسطس 2022
تُقاس وحدة الساحات ضمن قالبين، الأوّل ضيّق ينحصر في تلاحم جبهات الساحة الفلسطينية (غزّة، الضفة، القدس، الداخل). والثاني أوسع يمتد اقليميًا ليشمل كل عواصم وتشكيلات محور المقاومة، فتكون كل ساحة بخدمة الأخرى سياسيًا وإعلاميًا واجتماعيًا وعسكريًا وأمنيًا في إطار الصراع ضد الكيان الإسرائيلي. ويتكامل القالبان لتحقيق المفهوم الأشمل لوحدة الساحات.
فيما يتعلّق بمعركة “وحدة الساحات” التي خاضتها حركة الجهاد الإسلامي نُصرةً لما تعرّضت له الضفة الغربية من انتهاكات (اهمال حالة الأسير المضرب عن الطعام خليل عواودة واعتقال القيادي بسّام السعدي وغيرها)، ثمّ دفعًا للعدوان على قطاع غزّة (افتتحه الاحتلال باغتيال قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس تيسير الجعبري ولما لحقه من مجازر بحق المدنيين)، أوضح المحلل والباحث السياسي الفلسطيني صالح أبو عزّة في حديثه مع موقع “الخنادق” أنّ الحركة “أكّدت على أنّ وحدة الدّم ووحدة المشاركة العسكرية هي الطريق لوحدة المصير الذي يؤدي في نهاية المطاف الى وحدة المشاركة في دحر الاحتلال عن كامل الأرض الفلسطينية”.
الضفة ساحة مشتعلة ترجمت وحدة الساحات
بعد معركة “سيف القدس” عام 2021، تفعّلت المقاومة في الضفة الغربية، وقد اشتدّ عود هذه المقاومة مع تأسيس الكتائب في مناطق الشمال (كتيبة جنين، كتيبة نابلس، كتيبة طوباس، كتيبة طولكرم وكتيبة بلاطة، كتيبة جبع، وغيرها من المجموعات المختلفة). نهضت هذه المقاومة لتكون قادرة على إدارة معركة كاملة ضد الاحتلال (معركتي “بأس الأحرار” و”بأس جنين”، وخاضتها كتيبة جنين)، محقّقة بذلك وحدة الميدان والجغرافيا.
هنا أكّد “أبو عزّة” أنّه “على الرغم من تصدّر كتيبة جنين التابعة لسرايا القدس المشهد المقاوم في المعركتين الا أنّ هناك دوراً لكتائب شهداء الأقصى وكتائب القسّام. وحتّى داخل حركة الجهاد الإسلامي لبّت الكتائب والمجموعات الأخرى نداء كتيبة جنين لمشاركتها المعركة، وهذه ترجمة عملية من الجهاد الإسلامي وفصائل المقاومة الفلسطينية لوحدة الميدان ووحدة البقع الجغرافية في شمال الضفة”، لافتًا الى أنّ “موقف الجهاد الإسلامي كان مؤيدًا لتدخّل غزّة اذ ما شعرت القيادة العسكرية في سرايا القدس بهذا الواجب تجاه كتيبة جنين”.
فيما لم يغب أيضًا محور المقاومة عن دعم وإمداد وإسناد المقاومة في الضفة والتلويح بالتدخّل لو استلزمت المعركة في مخيم جنين وخاصة حزب الله في لبنان، في إطار القالب الأوسع لوحدة الساحات.
الداخل المحتل: اللمسة الأخيرة في اكتمال صورة وحدة الساحات
استنهضت معركة “سيف القدس” الداخل المحتل الذي برز كساحة قادرة على قلب موازين المعركة من عمق الجبهة الداخلية للاحتلال. لكنّ النقلة المهمة تتمثّل بعودة الداخل ليكون مسرحًا للمقاومة الفلسطينية من خلال العمليات الفردية، والتي تولّت مهمة الرّد على جرائم الاحتلال في غزّة والضفة منذ أواخر العام 2021 وارتفعت وتيرة ونوعية العمليات في عامي 2022 و2023، بعد إجماع الفصائل الفلسطينية على أنّ الداخل هي أرض فلسطينية مشروعة للعمل المقاوم أو للرّد على الاحتلال.
فكان الداخل المحتل اللمسة الأخيرة لاكتمال صورة وحدة الساحات، عبر تثبيت 3 أنواع من المقاومات الفلسطينية، لخّصها “أبو عزّة” بـ “المقاومة المنظّمة التي تعبّر عنها الفصائل، والمقاومة الشعبية التي تعبّر عنها مسيرات الدعم والإسناد التي يقوم بها أبناء الشعب عند نقاط التماس مع قوات الاحتلال، والمقاومة الفردية التي ينفذها الأسود المنفردة”.
المسار التاريخي لتطور مفهوم وحدة الساحات
هذا المشهد العملي والميداني لوحدة الساحات المترابطة فلسطينيًا واقليميًا قد وصل الى ما وصل اليه اليوم، عبر سلكه لمسار تصاعدي تدريجي تاريخي، رتّبه “أبو عزّة” من أصل الارتباط الديني العقائدي للعرب والمسلمين مع فلسطين المحتلّة ومقدساتها في مواجهة المشروع الغربي الاستعماري. فـ “لمّا كان الكيان الإسرائيلي هو الواجهة الأولى للمشروع الغربي الاستعماري فإنّ فلسطين هي الواجهة الأولى لمقاومة هذا المشروع. وكما يدعم الغرب “إسرائيل” يتوقع الفلسطيني أن عمقه الاستراتيجي يتمثّل بالدعم العربي والإسلامي. وبالتالي فإنّ مفهوم وحدة الساحات ومفهوم الدعم العربي والإسلامي هو جزء أصلي من ثقافة الشعب الفلسطيني”.
ولفت “أبو عزّة” الى أنّ مؤسس حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي ناشد الوحدة مبكرًا من خلال اعتبار القضية الفلسطينية هي “القضية المركزية” للأمة العربية والإسلامية، بما يمكن “اعتبارها أهم الأفكار المطروحة في جدلية مفهوم وحدة الساحات”.
جاء انتصار الثورة الإسلامية في إيران ليرفع أيضًا من أسهم القضية الفلسطينية لدى الشعوب العربية والإسلامية من خلال دعوة الأمام روح الله الخميني الى إحياء يوم القدس، فكان ذلك “جزء من ترسيخ فكرة أنّ فلسطين ملكًا للأمة العربية والإسلامية وأن مهمة تحرير هذه الأرض يقع على عاتق كل مسلم وأن من واجبات العرب والمسلمين جميعًا أن يقفوا الى جانب فلسطين، الانسان، والأرض والمقدّس”.
حديثًا في “سيف القدس”، برزت وحدة الساحات جليًا وبطريقة لافته عبر مسارين قسّمهما “أبو عزّة” الى: “مسار أول، له شق داخلي تحقّق من خلال مشاركة غزّة والقدس والضفة والداخل المحتل، كلّ بحسب اسهاماته في هذه المعركة. وشق خارجي تحقق بمشاركة حزب الله وحرس الثورة الإسلامية في المعلومات والتكتيكات مع إخوانهم في فصائل المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها كتائب القسّام وسرايا القدس”. أمّا “المسار الثاني، فأعلنه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله بتشكيل حلف القدس وإطلاقه معادلة القدس تعني حربًا إقليمية، وتلبية المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق واليمن للنداء”.
كيان الاحتلال في محاولة إجهاض وحدة الساحات
على الرغم من أن المؤشرات تؤكد أن استراتيجيات الاحتلال لم تؤتِ أؤكلها أمام ترسيخ المقاومة لمفهوم وحدة الساحات بعد هذا المسار التاريخي وصولًا الى الأحداث اليوم (التي تم شرحها في ما يتعلّق بـ “معركة وحدة الساحات” وما بعدها) فإنّ هذه الاستراتيجيات بقيت ضمن فلك العمل على التجزئة، “الفصائلية والجغرافية والإقليمية”.
فيتعدّى الاحتلال محاولات الاستفراد بمنطقة محددة كجنين نابلس القدس غزة والاستفراد بفصيل محدّد كالجهاد الإسلامي، نحو تجزئة إقليمية، شرحها “أبو عزّة” بـ “تجنّب الاحتلال التصعيد بشكل كبير في ساحة معيّنة ليتجنّب بالتالي تدخل أطراف خارج فلسطين المحتلّة وخاصة حزب الله.
فيما “تُجابه هذه الاستراتيجيات من قبل جميع تشكيلات محور المقاومة التي تسير ضمن وحدة الساحات وفق خطٍ حدّدته هي حسب تقديرها للظرف وتحديدها للأولويات بوعي لأفخاخ قد يضعها الاحتلال. وتقضي الخطة بدخول قطاعات تتابعية في كل عملية إجرامية للاحتلال وهذا يؤكد ما قاله الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي زياد النخالة في معركة ثأر الأحرار بأن الجهاد الإسلامي كان قادرًا على صد عدوان الاحتلال ولكن لو امتدت المعركة ستشارك عمليًا حركة حماس وإذا ما توسّعت أكثر لشارك حزب الله”.
اذًا تقف الساحة الفلسطينية ومعها الساحة الإقليمية لمحور المقاومة أمام مشهد متقدّم من تجسيد وحدة الساحات وتثبيت مفهومها بما لا يمكن للاحتلال إعادة عقارب الساعة الى الوراء. لكن يبقى تحديد الطريقة الأنسب في ترجمة وحدة الساحات برهن قراءة القيادة السياسية والعسكرية للمقاومات المعنيّة، كلّ على حدة، ومجتمعةً في إطار التنسيق الدائم بينها.