تصريح بلفور واستراحة ’المُقاتل القاتل’
موقع العهد الإخباري ـ
هيثم ابو الغزلان:
إحدى القصص تذكر أن أمًّا توصي ولدها الذاهب إلى المعركة أن يقتل من الأعداء جنديًا ويسترح! ثم يقتل جنديًا ثانيًا ويسترح! ثم يقتل جنديًا ثالثًا ويسترح!
تفاجأ الجندي من وصيّة والدته وسألها باستغراب وتَعجُّب شديدين:
ماذا لو قام الجندي الرابع وقتلني؟!
تفاجأت الوالدة من السؤال وردّت: ماذا؟! يقتلك؟! لماذا يقتلك؟! ماذا فعلت له ليقتلك؟!
وفق هذا المنطق الأعوج والغريب و”الأعرج” يريد البعض أن يصبح من “الطبيعي” أن يُعطي وزير الخارجية البريطاني السابق، “آرثر جيمس بلفور”، وعدًا للصهاينة بإقامة “وطن قومي لليهود”، وأن يعمل الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” كل ما في وسعه لتطبيق ما بات يعرف بصفقة القرن. فهذا كله يأتي في وقت تتمزق فيه الأوطان العربية، وبعضها يدمره أبناؤه، والبعض يفتح بلاده على مصراعيها لاستقبال الصهاينة، وبعضهم يعمل ليل نهار لتكريس الفتن وتقسيم الأوطان..
بات من المعروف أن تصريح “آرثر بلفور” في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1917، لإنشاء “وطن قومي لليهود في فلسطين”، جاء نتيجة التقاء مصالح بريطانيا الاستعمارية مع المخططات الصهيونية لتأسيس “وطن قومي”، على أرض فلسطين العربية، وبذلت الحكومة البريطانية “غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية”، وهذا ما لم تُقصّر به!! ونتج عن التقاء مصالح بريطانيا مع المنظمة الصهيونية العالمية اتفاق يقضي بأن تعمل الأخيرة لقاء وعد بلفور في مؤتمر الصلح في “فرساي” على مساعدة بريطانيا بفرض الانتداب البريطاني على فلسطين. وهذا ما حصل بالفعل. وفي إطار الالتزام العملي بوعد بلفور، طرحت بريطانيا فكرة التقسيم لتنفيذ الوعد لأول مرة عام 1937 لالتزامها في تحقيقه، والذي وافقت عليه الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا.
وتكرّس هذا التصريح لاحقًا بالعنف والاستيلاء على أراضي هي ملك لأصحابها الشـرعيين بالقوة، مع التخطيط المسـبق لطرد هؤلاء السكان واستئصال حضارتهم والقضاء على وجودهم.. وشكّل الاستيطان عنصراً رئيسياً من عناصر إقامة دولة اليهود في فلسطين، باعتباره وسيلة عملية تهدف إلى تهويد فلسطين وإقامة الكيان الاستيطاني فيها وتزويده بالعنصر البشري باستمرار لتقوية طاقاته العسكرية والاقتصادية والبشرية. ولهذا نرى ونلمس أن اليهود استطاعوا أن يحوّلوا
الوعد إلى تصريح بالهجرة، وعرفوا كيف يحولون “الوطن القومي” إلى “دولة قومية”، وأكثر من ذلك عرفوا كيف يحولون دولة قزم طبقاً لقرار التقسيم الذي صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 لعام 1947 إلى “إمبراطورية” احتلت ثلاث دول عربية بالإضافة إلى فلسطين كلها اعتباراً من صدور قرار مجلس الأمن رقم 242 في 22 كانون أول /نوفمبر 1967 بوقف إطلاق النار لحرب حزيران /يونيو من العام ذاته، قبل أن تجبرها المقاومة في لبنان على الانسحاب من جنوب لبنان (2000)، وتجبرها المقاومة في فلسطين على الهروب من غزة (2005)، لتعود وتواجه أزماتها مع المقاومة على تخوم القطاع “بمسيرات العودة وفك الحصار”، و”ميزان الردع” الذي حققته المقاومة بعد عدد من الحروب التي خاضتها ضدها.
ومن هنا، فإن مشروع “إسرائيل” في فلسطين هو نتاج مشروع استعماري، تلتقي فيه المصالح، ويغذي كل من المركز والأطراف الآخر، ويعطيه أسباب الحياة والاستمرارية والبقاء والتطور في إطار وظيفة كلٍّ منهما تجاه الآخر وبالتعاون معه في مخطط إدارة المنطقة العربية. وهذا يعكس الأزمة المزدوجة التي تعيشها أمتنا، بأنها ذات وجهين لا ينفصل أحدهما عن الآخر: الاستعمار والقابلية للاستعمار. الاستعمار من خلال الهجمة الغربية الإستعمارية لإبقاء الهيمنة على العالم وبالأخص على عالمنا العربي والإسلامي، وفي المقابل هناك سبب ذاتي داخلي هو القابلية للاستعمار ما مكّن هذا الاستعمار وقوّاه في هذا المجال من خلال واقع التخلف والتبعية والتغريب وإقامة الكيان الصهيوني كحارس لهذا التفتيت وهذه التجزئة.
وبينما تقاتلنا “إسرائيل” في ظل “القومية اليهودية” و”التدين القومي اليهودي”، نجد أن الفلسطينيين العرب، وهم جزء من الشعب العربي والعمق الإسلامي، يواجهون المشروع الاستعماري وحدهم وضمن تقسيمات الإقليم العربي الى دول منفصلة منذ عام 1918. فالصهيونية التي تقاتلنا تشكل الوجه العنصري للقومية اليهودية، معتمدة على يهود العالم وقوتهم المالية وقدراتهم الفكرية وعلى عمقهم في الغرب وخبراته، بينما الفلسطينيون يواجهون عدواً متفوقاً من دون العمق العربي وبلا القومية العربية أو الإسلامية. ولهذا الاعتماد الأساسي يجب أن يبقى وفق هذا الواقع على شعبنا الفلسطيني من خلال النضال والمقاومة والجهاد المستمر لوضع كوابح حقيقية أمام المشروع الصهيوني.
إن استمرار الشعب الفلسطيني بمسيرته النضالية ليعتبر دليلًا على حيوية وقدرة هذا الشعب في اجترار أدواته النضالية في مواجهة هذه الهجمة الاستعمارية الجديدة التي “لن تستطيع إخضاع الفلسطينيين ودفعهم إلى الخروج من فلسطين”، بل على العكس من ذلك هي دافع لمواصلة هذا النضال حتى دحر الاحتلال والتحرير والعودة.