تزوير مستندات لبيع الشاطئ العام
صحيفة الأخبار اللبنانية ـ
رلى إبراهيم:
لم تنجح محاولة بيع الملك العام في الجزء الشمالي من الرملة البيضاء، لحساب ورثة الرئيس رفيق الحريري. وبدلاً من إيفاء الرئيس سعد الحريري بوعده إعادة الشاطئ إلى أهله، قرر الورثة أنفسهم قرصنة الجزء الجنوبي من المسبح البيروتي العام، وبيعه إلى رجل الأعمال محمد سميح غدار. وهذه المرة، يُريدون إتمام الصفقة بمستندات متلاعَب بها، وتصنيف عقاري غب الطلب، وبمخالفة حوالى «دزينة» من القوانين والمراسيم النافذة منذ عشرينيات القرن الماضي. وفي حال تمّت الصفقة المقدرة بنحو تسعين مليون دولار، سيختنق جزء إضافي من الشاطئ العام بجدران الباطون
«عامل السبعة وذمتها»! هذا في المثل الشعبي. أما في واقع ورثة رفيق الحريري، فقد أُنجزت «السبعة» منذ بدأ زمن سوليدير، الى التهرب من رسم انتقال الإرث، مروراً بالدالية وسوكلين والـ»ايدن روك»، وصولاً الى شاطئ الرملة البيضاء وحرج بيروت.
أما «ذمّتها» فتستكمل فصولها اليوم مع محاولة إنهاء صفقة بيع 4 عقارات ملاصقة للمسبح الشعبي (المصيطبة 4285، 2233، 4011، 2231) تشكل امتداداً للشاطئ العام على الرملة البيضاء، الى رجل الأعمال محمد سميح غدار.
الواضح أن انكشاف صفقة العقارات الثلاثة على شاطئ الرملة البيضاء، قبل أشهر، لم يردع المرتكبين. وبعدما فشل رئيس بلدية بيروت السابق بلال حمد في تمرير صفقة عقارية مشبوهة بقيمة 120 مليون دولار، وهي أموال تصرف من صندوق سكان بيروت لتذهب الى جيوب أبناء الحريري، فإن المحاولة تتكرر اليوم، من مال رجال الأعمال، لكن على حساب الحق العام.
لا غضبة الرأي العام ضد مشروع بلْع شاطئ بيروت وأملاكه العامة ثنَتهم عن الجريمة، ولا هي منعتهم من استكمال مشروع تدمير واجهة بيروت البحرية وبيعها. وهم عند موقفهم، لا يكترثون لقوانين أو مراسيم. ويتجاهلون الوثائق التي تؤكد حصول عمليات «تزوير» ممنهجة بشحطة قلم. يريد الورثة تسييل ما يسمونه «عقاراتهم» بالقوة، وهو ما دفعهم أمس الى جرف إحدى الاستراحات الصغيرة في الجهة الجنوبية من شاطئ الرملة البيضاء، بمؤازرة شرطة الشواطئ، بغية «تنظيف» الأرض قبل بيعها. فهذه الاستراحة تقع في ما يعتبرونه ملكهم الخاص، وهم على وشك إتمام صفقة البيع قريباً إذا ما وصلوا الى الخواتيم السعيدة مع المشتري غدار، مع العلم بأنه جرى هدم الدرج الذي شيّدته البلدية لتسهيل وصول المواطنين الى الشاطئ. وعند استفسار المواطنين عمّا يحصل، كان الجواب أن وزارة الأشغال تقوم بصيانة المجارير!
الضائقة المالية لعائلة الحريري تتوسع. والواضح أنها اشتدت بعد تعثر صفقة الرملة البيضاء في الوقت الحالي. لذلك انتقلوا سريعاً الى النقطة الثانية في مشروعهم. وتقوم على أربعة عقارات تفصل بين عقارات يدّعون ملكيتها، وبين مشروع «الايدن روك». وإذا مرت هذه الصفقة، ينضم شاطئ جنوب بيروت الى الدالية وسوليدير على قائمة أملاك الدولة والمواطنين المغتصبة.
كان الرئيس رفيق الحريري طفلاً عندما كانت واجهة بيروت البحرية (خمسينيات القرن الماضي)، بما فيها شاطئ الرملة البيضاء، خالية من أي عقار، وتشكّل كما في كل دول العالم الشاطئ العام الذي يرتاده المواطنون والسيّاح مجاناً.
ويظهر ذلك جلياً في كل الخرائط المرسومة آنذاك (حصلت «الأخبار» على نسخ منها). لم يدم الأمر طويلاً، إذ بدأت تنبت العقارات الواحد تلو الآخر. وكان بالإمكان رصدها بعد تنفيذ استملاك كورنيش الرملة البيضاء البحري. لذلك اتفقت الدولة مع المالكين (الدكتور مانويل يونس، المهندس فريد طراد، ميشال زغزغي، جان تيان، نقولا طراد) وفق المرسوم 14699 على تثبيت الملك العام ونقل ملكية القسم الأكبر الذي يقع تحت تلك الطريق الى الدولة، وضمنها العقارات التي رتبت البلدية صفقة شرائها أخيراً والعقار رقم 2231 من بين العقارات الأربعة التي يحاول الحريري بيعها حاضراً. وهو العقار الأساسي والأكبر حجماً بينها.
ووفق ما ورد في المرسوم الصادر بتاريخ 15 كانون الثاني 1957 تقرر أن ينفذ المالكون شارعَين على نفقتهم الخاصة، بما في ذلك جدران الدعم، إضافة الى تقديم الأرض اللازمة لإنشاء ساحة عامة من دون أي مقابل، وهو ما نفّذ أيضاً. كذلك تعهد المستدعون التنازل عن ملكية الاقسام المتبقية من عقاراتهم الواقعة بين الكورنيش والبحر، ما يعني أن عقارات الرملة البيضاء الثلاثة (2369، 4026، 4027) التي كانت تسعى البلدية الى شرائها بمبلغ 120 مليون دولار، هي ملك عام مثبت بحسب النص القانوني. كذلك الحال بالنسبة إلى القسم الغربي من العقار 2231 الواقع غرب الكورنيش، والذي يسعى فهد رفيق الحريري الى بيعه حالياً. أما الأقسام الأخرى التي تقع أيضاً تحت الطريق، فيمنع «البناء عليها من أي نوع كان وعدم الاشغال لأية غاية»، كما هي حال العقار 3689 المصيطبة، أي القسم الأول من مشروع «ايدن روك». الأمر الذي يؤكد حظر البناء في تلك المنطقة التي صنّفت ملكاً عاماً نتيجة المرسوم وبفعل القانون، فيما إحدى هذه الطرقات هي عبارة عن ساحة جانبية تمتد من العقار 4285 مع طريق تمر ضمن كل العقارات الأربعة والعقارات الأخرى التي تشكل «ايدن روك» وما يليها حتى حدود مدينة بيروت الادارية. وتعرف باسم شارع «أم كلثوم»، وقد تم تثبيت استملاكها تحت رقم «dp 66»، علماً بأن كورنيش الرملة البيضاء مستملك تحت رقم «dp 60». .
في 24 حزيران من عام 1966 صدر مرسوم آخر تحت رقم 4811 يصدق تخطيط تمديد كورنيش الرملة البيضاء في منطقة المصيطبة. وعليه أصبح الاستملاك (dp 66) ضمن هذا التخطيط. إلا أن الدولة تقاعست عن القيام بواجباتها، ولم تحوّل ملكية هذه العقارات الى ملك عام، فنُسي المرسوم في الأرشيف، علماً بأن لا «مرور زمن» على الملك العام.
أربع فضائح متواصلة
كل ذلك حصل قبل عام 1995 المفصلي. ومع وصول رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري الى الحكم تغيرت خارطة الواجهة البحرية بشكل مفاجئ بعد أن عمد الحريري الأب، بطلب من أصحاب العقارات، الى شراء كل سندات الملكية الخاصة أو أسهم الشركات المالكة لتسجيلها باسمه الخاص أو باسم شركاته الخاصة. وهو ما يفسر لماذا ألغي تخطيط عام 1966 فجأة بمرسوم رقم 7505 الصادر في 10/11/1995 وبإمضاء رئيس الجمهورية آنذاك الياس الهراوي ورئيس الحكومة رفيق الحريري ووزير الأشغال العامة علي حراجلي. إلا أن إلغاء التخطيط لا يلغي الاستملاك بطبيعة الحال، أي ما يسمى DP 66. استُكمل ابتلاع الملك العام بإخفاء ملف الاستملاك والخرائط من أرشيف الدوائر العقارية كما من أرشيف بلدية بيروت التي يمسك بها الحريريون منذ نحو 20 عاماً. كل ما تجده ملفات فارغة من أي مخططات ومستندات سابقة.
الفضيحة الثانية برزت قبل ثلاثة أسابيع، إذ فجأة، ومن دون مقدمات، حصل تعديل لتصنيف العقار 4285 الذي يشكل امتداداً للعقارات الثلاثة على طول القسم المستقيم من كورنيش الرملة البيضاء. وبدل أن يبقى عقاراً ممنوعاً البناء عليه أبداً، كما يُمنع تغيير طبيعة أرضه الرملية (V/10)، تحوّل الى عقار مسموح البناء عليه بعامل استثمار محدد بـ(VI /10). وتقول المصادر المتابعة إن التغيير تم بواسطة مديرية التنظيم المدني حصراً، وبموافقة رسمية من مصلحة الهندسة التابعة لمحافظ بيروت زياد شبيب. وهذه العملية مخالفة للقانون الذي يوجب صدور مرسوم عن مجلس الوزراء بشأنها. وهي طريقة سبق أن جرّبت سابقاً، مع صدور قرارات للتنظيم المدني بشأن مشروع «ايدن روك»، حين أعطى المحافظ بمساعدة رئيس مصلحة الهندسة آنذاك ايلي اندريا (نائب رئيس البلدية الحالي) إذن حفر الشاطئ هناك.
أما الغرض من تغيير التصنيف، فليس سوى جعل العقارات الأربعة قابلة للاستثمار، وبيعها بسلاسة وبسعر مرتفع، لأن إلغاء التخطيط، وتغيير التصنيف، وابتداع طريقة لوصل تلك العقارات الأربعة بالأملاك العمومية الأخرى، تسمح لصاحب العقارات بالحصول على استثناء من الحكومة لبناء سنسول بعمق 160 متراً في قلب البحر. وهو مشروع يفكر رجل الاعمال غدار في إنجازه، علماً بأن هذا المشروع كان الحريري الأب قد أعدّه تحت اسم NARA، أي الأحرف الأولى من نازك ورفيق، وهو عبارة عن برجين كبيرين وسنسول، قبل أن يتراجع عنه في عام 2002 نتيجة اعتراض أهالي بيروت على خنق مدينتهم وبتر بحرها، علماً بأن مرسوم الحريري لاستثمار الأملاك البحرية موجود مذاك، ولكنه غير موقّع بعد من الدوائر الرسمية.
الفضيحة الثالثة تتعلق بتلاعب دائرة المساحة بخرائط المساحة عبر إخفاء الاستملاك DP 66 منها، وإظهار العقارات الأربعة نظيفة من دون أي شوائب.
أما الفضيحة الرابعة، فتكمن في تلاعب بلدية بيروت هي الأخرى بالاستملاك نفسه، إذ تمت الاستعاضة عن مخطط السجل المساحي «CADASTRES» بمخطط آخر لا يلحظ الاستملاكات القديمة التي تقسم هذه العقارات الأربعة كل واحد منها إلى قسمين، إذ إن فصلها يقلص حجمها ويلغي حق المالكين في الحصول على استثناء بحري، علماً بأنه، بناءً على كل ما سبق، يجدر بتلك العقارات أن تكون عامة وتملكها الدولة لا عائلة الحريري.
في المحصلة، فإن ورثة الحريري، ومن خلال «الشركة الوطنية للأراضي والأبنية ش.م.ل.» التي سجلت العقارات الأربعة باسمها، وضعوا أيديهم على أملاك اللبنانين العامة. والمساهم الرئيسي في هذه الشركة هو «شركة إيراد للاستثمار ش.م.ل. – هولدينغ» التي يملك أكبر أسهمها الشقيقان فهد وهند رفيق الحريري، تماماً كما سبق لـ»شركة البحر العقارية الأولى» التي يملكها فهد الحريري والثانية التي يملكها رجل الاعمال وسام عاشور، أن ورثا الاعتداء على الملك العام عن طريق الاستيلاء على العقارات الثلاثة على شاطئ الرملة البيضاء. وفي الحالة الأولى كما الثانية، تجاهل الحريريون بشكل تام كل المراسيم وأسقطوها الواحدة تلو الآخرى بدم بارد، غير آبهين بحقوق البيروتيين واللبنانيين: القانون ١٤٤/ ١٩٢٥ الذي يصف الاملاك العمومية البحرية بطبيعتها: رملية وحدودها ضرب الموج حتى أبعد مسافة في الشتاء. القسم السادس للمادة الاولى من المرسوم ٤٨١١/ ١٩٦٦ حيث يمنع البناء بين الطريق البحرية ومياه البحر. المرسوم رقم 14699 الذي أكد ملكية الدولة لقسم كبير من العقارات الواقعة غرب الطريق البحرية. لم يردعهم لا قانون ولا مرسوم أو دولة، بل جاهروا بمخالفة كل القوانين وتغيير خرائط البلدية الأصلية وإصدار أخرى متلاعب بها لا تلحظ الطريق المستملكة تحت رقم DP 66 المنفذة حتى آخر حدود بيروت. التعديات هذه التي عدل رفيق الحريري عن تنفيذها خوفاً من غضب البيروتيين، تجرّأ ورثته على القيام بها، متجاهلين الشعب والدولة الصامتة والمتواطئة في ما يحصل.
جرى كل ذلك في عام 2014 حينما قرر الحريريون تثبيت ملكيتهم للأراضي وقدموا طلباً الى البلدية لتطبيق مرسوم عام 1995 بإلغاء التخطيط تمهيداً لبيع العقارات مع تصنيفها قابلة للبناء. والأهم أن ورثة الحريري وبلدية بيروت ومحافظتها والدوائر العقارية والمساحة تناسوا المرسوم 14817/ الصادر في 20/6/2005 الذي أزال كل الشكوك بشأن الأملاك، وأوضح التصنيف المفترض اعتماده لبعض أقسام المنطقة 10، أي التي تقع ضمنها العقارات الأربعة ما بين الكورنيش والبحر. فأكد أنه رغم إلغاء التخطيط، يبقى التصنيف كما هو وارد في المرسوم 4811 بجميع أقسامه وتفاصيله كما لو لم يتمّ إلغاء هذا التخطيط، أي يحظر بناء أي منشأة تحت خط التخطيط القديم الملغى حتى في حالة التلاعب في الخرائط. لذلك كل تغيير بتصنيف العقار رقم 4285 لا يفيد في تسويق الحريري لعقاراته الخاصة، فقسم من العقار مستملك والقسم الآخر يخضع لتطبيق منع البناء.
عودة «الأيادي السود»
أصدرت حركة الشعب أمس بياناً بشّرت فيه بعودة «الأيادي السود التي سلبت الاملاك العامة البحرية على امتداد الساحل اللبناني من الشمال الى الجنوب الى استكمال خطواتها لإقفال آخر شاطئ بحري مجاني والمتنفس الوحيد لأهالي العاصمة بيروت». واعتبرت ما يجري «انتهاكاً لكل القوانين التي تحفظ حقوق المواطنين بالأملاك العامة البحرية وغيرها». وحمّلت مسؤولية السرقة لـ»بلدية بيروت»، مشيرة الى ضرورة «التصدي لها بكل الوسائل القانونية والشعبية المتاحة». وبناء ًعلى ذلك، دعت الحركة «كافة القوى السياسية والشعبية والأهلية الى التلاقي السريع والتنسيق فيما بينها لمواجهة هذا الاعتداء الممنهج على شاطئ الرملة البيضاء».
[ad_2]