تركيا في أفغانستان: دوافع زبائنية وخيارات عقيمة
موقع قناة الميادين-
وسام إسماعيل:
في تحليل الإشكاليّة التي تحكم العقل السياسي التركي، فإنَّها تكمن في طريقة فهمه لواقع العلاقات الدولية ومصالحه القومية.
ترتكز السياسة الخارجيّة للرئيس التركي رجب طيب إردوغان على تكريس ما يشبه الانقطاع التام مع ما أفضت إليه اتفاقية “لوزان” للعام 1923، إذ يحاول استغلال الظروف الإقليمية والدولية لإعادة التمركز خارج الحدود السياسية للدولة التركية، في مسعى للعودة إلى حدود الإمبراطورية العثمانية التي سقطت خلال الحرب العالمية الأولى.
تتميَّز هذه السياسة بنوع من البراغماتية والزبائنية، إذ تفتقد إلى معايير ثابتة، وتقارب توجهاتها انطلاقاً من مصالحها القومية ومما يمكن تشخيصه على أنه يساهم في إعادة بناء الدولة التركية بحدودها العثمانية. ومن خلال هذه المقاربة، يفترض الانطلاق في عملية تحليل مفاصل المشاريع التركية في ليبيا وسوريا وأذربيجان وصولاً إلى أفغانستان.
إنّ إجراء نوع من المقارنة بين ما يمكن أن تعتبره الدولة التركية مصالح حيوية مباشرة في ليبيا وسوريا أو أذربيجان وما تريده في أفغانستان يؤكد هذه الزبائنية، فما يمكن التدليل عليه بسهولة على أنّه مصالح حيوية في سوريا، حيث الحدود المشتركة، وكذلك في ليبيا، حيث الطموح بتثبيت موطئ قدم في أفريقيا، وتوقيع اتفاقية مع ليبيا لترسيم الحدود البحرية وتحديد المياه الاقتصادية في البحر المتوسط، أو حتى انتماء أكثر الشعب الآذري إلى الإثنية التركية، وتأكيد الرئيس التركي أن حدود الدولة التركية تشمل كل القوميات التركية في المنطقة، يستحيل تأكيده من خلال محاولة توصيف المصالح التركية في أفغانستان، إذ تتَّسم بنوع من الضبابية والغموض.
ونظراً إلى الخارطة السياسية للمنطقة، يظهر جلياً بعد المسافة بين الدولتين، إذ تفصل الجمهورية الإسلامية الإيرانية بينهما. وبذلك، تنتفي حجة المخاطر الأمنية العابرة للحدود، كما في سوريا. أما تحليل الخارطة الإثنية والعرقية لكلا الدولتين، فيمكن من خلاله التأكيد أنَّ الأيديولوجيا التي يحاول الرئيس التركي رجب طيب إردوغان تكريسها كإطار للمجال الحيوي التركي، لا تنطبق على العلاقة مع أفغانستان ذات الأغلبية البشتونية والطاجيكية.
وعليه، إذا كان من الممكن تحليل أهداف التدخل التركي في ليبيا وسوريا وأذربيجان انطلاقاً من مشروع العثمانية الجديدة والحاجات الحيوية للدولة التركية، فإنَّ تحليل الأهداف التي انطلقت منها الدولة التركية لتثبيت وجودها في أفغانستان عبر الاتفاق مع الولايات المتحدة يؤكّد أنَّ براغماتية القيادة التركية قد تدفعها إلى القيام بما يمكن اعتباره تبادلاً للخدمات، حيث التكفّل بالقيام بتأمين المصالح الاستراتيجيّة للدول الغربيّة في المنطقة مقابل الاعتراف بدورها ومجالها الحيوي في الإقليم.
وفي تحليل الإشكاليّة التي تحكم العقل السياسي التركي، فإنَّها تكمن في طريقة فهمه لواقع العلاقات الدولية ومصالحه القومية، إذ إن معيار احترام السيادة وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول لا يحضر في مرتكزات السياسة الخارجية للدولة التركية.
وعليه، إنَّ قرار تعزيز القوات التركية في أفغانستان لم يكن نتيجة تواصل مع السلطة السياسية في أفغانستان أو القوى السياسية الفاعلة فيها، والتي تعتبر “طالبان” الأقوى بينها، وإنما استند إلى ما يمكن توصيفه على أنه صفقة بين القوى الكبرى على حساب أفغانستان، فدعم الولايات المتحدة للمشروع التركي في هذا البلد، خوفاً من تنامي النفوذ الروسي والإيراني والصيني، توافقَ مع سياسة بعض حلفاء تركيا المرتابين من الدور الإيراني والروسي في الشرق الأوسط، ليشكّل نقطة الارتكاز لمشروع تركي سبق التمهيد له عبر الوكالة التركية للتعاون والتنسيق “TIKA”.
لقد استندت الإدارة التركية في تقييمها للقرار الأميركي بالخروج من أفغانستان على فرضية أنَّ هذا الانسحاب لم يكن محسوباً لناحية ضمانة مصالح القوى الغربية الحيوية أو لناحية ضمانة صمود الجيش والقوى الأمنية وعدم تفكّكها في مواجهة حركة “طالبان”. تأكَّد هذا الأمر مع إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن أنَّ الوجود الأميركي في أفغانستان لم يكن موجّهاً لبناء الدولة الأفغانية، وأن قرار الخروج لم يأخذ بالاعتبار إلا واقع أن الوجود العسكري في هذا البلد هو وجود عبثي تفوق خسائره ما يمكن تحقيقه من مزايا.
وبذلك، حاولت الإدارة التركية انتهاز الفرصة لتحقق عدة أهداف، من خلال محاولة إقناع الطرف الأميركي بإمكانية الحد من خسائر الانسحاب العشوائي عبر تعزيز عديد قواتها في هذا البلد، إذ إنَّها كانت تشارك بعديد لا يتجاوز 500 جندي تحت راية حلف شمال الأطلسي منذ العام 2001.
وإذا حاولنا أن نبحث في الأهداف التي قد تدفع الجانب التركي إلى خوض هذه المغامرة، فسنجد أنَّ الهدف الأول يتمحور حول محاولة إعادة الحرارة والحيوية إلى العلاقات مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية، إذ إنَّ تكفّل الدولة التركية بضمان حماية المفاصل الحيوية في كابول وتأمين عدم وقوعها تحت سيطرة “طالبان” يشكل حاجة استراتيجية للولايات المتحدة المنكفئة عن المنطقة، ويضمن إدارة عملية النزوح من هذا البلد بما لا يشكّل خطراً أمنياً على الاتحاد الأوروبي.
يكمن الهدف الثاني في تعزيز النفوذ التركي في آسيا الوسطى على حدود روسيا الجنوبية في منطقة غنية بالموارد الطبيعية، وترتبط دينياً ولغوياً وعرقياً وتاريخياً بتركيا. أما الهدف الثالث، فهو اشتراط تركيا الحصول على دعم سياسي ومادي واستخباراتي من الولايات المتحدة، بما يساعد على تحقيق مكاسب وتثبيت نفوذ ضروري في أي عملية تفاوض هدفها رسم خارطة المنطقة وتقاسم النفوذ في حال انكفاء الولايات المتحدة من سوريا والعراق، غير أنَّ رفض حركة “طالبان” بقاء القوات التركية في أفغانستان تحت أيِّ مسمى كان بمثابة معضلة يصعب حلّها، فالاتفاق التركي الأميركي يتعارض مع الاتفاق الذي تمَّ بين حركة “طالبان” والولايات المتحدة في الدوحة في العام 2020، والذي نص على انسحاب كل القوات الأجنبية المنضوية تحت علم الناتو من هذا البلد. ومن المعروف أن القوات التركية جزء من هذا الحلف.
وإضافة إلى رفض حركة “طالبان” تعزيز الوجود العسكري التركي في أفغانستان وتأكيدها ضرورة سحب كل القوات الأجنبية من بلادها، فإنَّ دول الجوار المعنية بالشأن الأفغاني وبالتوازنات الدولية في آسيا الوسطى والقوقاز لا تختلف مع هذا الموقف، إذ إنَّها، وخصوصاً روسيا والجمهورية الإسلامية، تتفق على رفض هذا الوجود، وتشكّك في كيفية الانسحاب الأميركي، وتتوجَّس من الدور التركي السلبي الذي اختبرته في سوريا وكيفية إدارة الدولة التركية ملفات ليبيا وأذربيجان، إذ سهلت نقل المسلحين للمشاركة في الأعمال القتالية في هذه الدول. ولذلك، كان مفهوماً تواصلهم مع حركة “طالبان”، باعتبارها الأكثر قدرة على توحيد البلاد تحت سلطة واحدة، وعلى الالتزام بعدم إثارة التوترات على الحدود.
لذلك، إنَّ خيارات الجانب التركي قد تضيق، ذلك أنَّ الموافقة الأميركية على تعزيز الدور التركي في أفغانستان مرهونة بالفاعلية في الحدّ من تمدد النفوذ المناهض للولايات المتحدة في تلك المنطقة. ومن دون التعاون مع الحركة أو مهادنتها على الأقل، ومن دون القبول الإقليمي بهذا الدور، فإنَّ خيار مواجهة متعددة الأوجه بين القوات التركية والمناهضين لوجودها سيجعل من إمكانية نجاح مشروعها أمراً صعب التحقّق.
ولأنَّ القوى الفاعلة في أفغانستان وجوارها متمسّكة بالرفض القاطع لأيّ حضور عسكريّ أجنبيّ في هذا البلد، فإنَّ الجانب التركي لن يتوانى عن فعل ما يلزم لتحقيق أهدافه، من إثارة التوترات على حدود دول الجوار لدفعها إلى التعاون، أو إمكانية الاستعانة بتنظيم “القاعدة” ودعمه بالموارد المالية والعسكرية ومدّه بأعداد من المرتزقة التكفيريين المتواجدين في شمال سوريا، أو حتى تأجيج الصراعات الداخلية وتسعير الحرب الأهلية، على غرار ما يحدث في ليبيا وسوريا. وللتأكيد على هذه الخيارات، يمكن بسهولة العودة إلى أرشيف السلوك التركي في تعاطيه مع الملفات الإقليمية، إذ تمَّ تصدير أعداد من المرتزقة التكفيريين من سوريا إلى ليبيا وأذربيجان.
إذاً، يمكن تصنيف التدخل التركي في أفغانستان ضمن خانة الوجود المزعزع لاستقرار المنطقة، والذي سيؤثر سلباً في المنطقة وتركيا وحزب “العدالة والتنمية”، فإذا افترض التركي أنَّ الدعم الأميركي لمشروعه سيضمن نجاحه، فهل من الممكن أن ينجح الوكيل حيث فشل الأصيل؟ وإذا افترض التركي إمكانية الوصول إلى تفاهم مع حركة “طالبان”، وهو أمر مستبعد، فهل سيكون بإمكانه أن يقدم ضمانات لدول الجوار، بما قد يسمح له بتثبيت وجوده في أفغانستان؟ وأخيراً، وعلى افتراض فشل هذا المشروع، فإنَّ هذا الفشل سينعكس تراجعاً على مستوى مشروع العثمانية الجديدة، وكذلك على مستوى حضور حزب “العدالة والتنمية” في الداخل التركي.