#تركيا: الحذَر من الانقلاب
ورد كاسوحة – صحيفة الأخبار اللبنانية
الخلل الذي عانت منه المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا لم يكن في أصل التحرّك بقدر ما كان في افتقاده للعمق الشعبي، وعدم اعتماده على دعم أحزاب المعارضة التي تنصّلت من المحاولة بمجرد اتضاح فشلها وعجزها عن تحقيق اختراق جدّي داخل بنية النظام الأساسية. ولا يغيّر من هذه الحقيقة كون المحاولة أتت بتدبير من جماعة فتح الله غولن أو سواها.
إذ يتبيّن الآن، من خلال الاعتقالات الواسعة التي تقوم بها السلطة، أنّ المحاولة كانت كبيرة بالفعل، وإذا كانت مرتبطة بحركة فتح الله غولن، فلأنّ هذه الأخيرة كانت نافذة في أجهزة الدولة، ونفاذها ذاك كان هو العامل الذي سيمكّن القطعات المتمرّدة من تمتين انقلابها وتحويله إلى بنية بديلة من البنية القائمة التابعة للسلطة. هذا لا ينفي هشاشة الانقلاب ولا البطء الذي اتسمت به حركته، ولكنه يضعه في سياق غير ذاك الذي ربطه عضوياً بحركة غولن وجعل منها العامل الأساس في ما حصل. ثمّة ما يؤكّد ثانوية هذه الصلة أيضاً، هو عدم التناسب بين عدد المؤيّدين للانقلاب داخل أجهزة الدولة المختلفة، وردّ الفعل الشعبي المعارِض الذي أتى باهتاً وضعيفاً، وفي أفضل الأحوال حذراً، بالنظر إلى تجاربه السابقة مع الانقلابات العسكرية التي كانت تحصل قبل عهد حزب العدالة والتنمية في مواجهة اليساريين على اختلاف مشاربهم.
الوقوف في الوسط
في بداية التحرّك، وبمجرد سيطرة القطعات التي أعلنت التمرّد على عُقَد المواصلات الأساسية في العاصمة أنقرة وفي إسطنبول العاصمة الاقتصادية للبلاد، خرجت إلى الساحات “أعداد طفيفة” من الناس معلنةً تأييدها للانقلاب، ولكن هذه الأعداد اختفت بمجرد خروج أردوغان عبر تطبيق “فايس تايم” ليدعو أنصاره إلى التظاهر ومواجهة الانقلاب. لم ينقلب المزاج الشعبي هنا أو يتغير، فهو منذ البداية كان حذراً تجاه التحرّك الذي تقوم به القطعات المُنقلِبة، وباستثناء أنصار أردوغان وحزب العدالة والتنمية الذين ملأوا الشوارع في إسطنبول تحديداً، فإن الباقين – من أنصار أحزاب المعارضة وقواعدها – لزموا منازلهم، كما أوضح الزميل عامر محسن في مقاله حول الموضوع قبل أيام. التوصيف الأدقّ لموقفهم هو الانتظار ريثما يتّضح حجم الخرق الذي أحدثته المحاولة الانقلابية داخل جسم السلطة. وهذا الانتظار لا يعكس بالضرورة تأييداً للمحاولة بقدر ما يُظهر حذراً منها ومن مآلات فشلها التي بدأت تَظهَر عبر استماتة السلطة في عزل كلّ العناصر التي لا تُبدي تأييداً كاملاً لها ضمن أجهزة الدولة المختلفة (الجيش، القضاء، الاستخبارات، الشرطة، الإعلام، التعليم… الخ). كان لا بدّ من أخذ مسافة من الانقلاب حتى لا تتخذ السلطة من “تأييده”، فيما لو حصل، ذريعة لتجريم الجسم السياسي للمعارضة، بعدما جرّمت تقريباً معظم “الأجسام الأخرى لها” القضائية والإعلامية والتعليمية والبحثية و… إلخ. ولكي يبقى ثمّة قدرة لدى الجهات التي لم تطاولها يد أردوغان على المقاومة والاعتراض، ولو من طريق الهيئات السياسية المُنتخَبة بعدما استطاع الرجل تقريباً سدّ كلّ المنافذ الأخرى للاعتراض. بهذا المعنى يصبح الوقوف في المنتصف بين أردوغان والمُنقلِبين عليه أفضل طريقة لتفادي المزيد من الخسائر في صفوف المعارضة، حيث يتعذّر مع هذا العدد الكبير من المعتقلين والمعزولين والمفصولين من أعمالهم ووظائفهم معرفة أيّ الجهات بالضبط هي التي طاولتها يد السلطة، وما إذا كانت تنتمي بالفعل إلى أحزاب معارضة مختلفة (حزبا الشعب الجمهوري والحركة القومية تحديداً) كما قيل في الإعلام؟
انعدام فاعلية الاستقطاب
العامل الآخر الذي لم يجرِ الحديث عنه بما يكفي في الأيام الفائتة هو تأثير التصفيات التي تقوم بها السلطة لمعارضيها، ليس فقط على نمط اشتغال المعارضة، بل أيضاً على قدرة المجتمع التركي على المجابهة، بعدما جرّده أردوغان من معظم الأدوات التي كان يستخدمها ضدّه وضدّ السلطة عموماً. الاستقطاب بهذا المعنى لم يعد ينفع كثيراً في مواجهة السلطة، إذ إنّ فاعليته مرتبطة بنجاعة أدوات الاحتجاج أو الاعتراض، وحين تفقد هذه الأخيرة المساندة التي تحتاجها داخل أجهزة الدولة، سواء أكانت هذه المساندة إعلامية أم قضائية أم… إلخ تخرج عن سياقها المرتبط بتضافر عدد من العوامل وتتحوّل إلى ظاهرة صوتية لا ثقلَ كبيراً لها، ولا إمكانية لتعديل موازين القوى مع السلطة. التعديل اليوم يقوم به أردوغان وبفاعلية كبيرة، وهو إذ يفعل ذلك يعرف أنّ الانقسام السياسي والاجتماعي الذي يعاني منه المجتمع التركي لن يكون في مصلحة معارضيه بعد الآن. حيث لا إمكانية لتوظيفه مع هذا الكمّ الكبير من التجريف الذي تتعرّض له الكوادر المعارضة التي كانت تواكب باستمرار معظم الفعاليات الاحتجاجية التي قامت في السنوات الماضية، واضعةً إمكاناتها ونفوذها داخل المجتمع التركي في خدمتها. هذا الاختلال في موازين القوى بين السلطة ومعارضيها سيصعّب قيام أيّ فعالية جديدة في حال ارتكاب السلطة لمزيد من الحماقات، وسيحدّ من الطبيعة التراكمية لفعلها الذي بدأ بالاحتجاجات قبل أن ينتقل إلى داخل المؤسّسات المنتخبة، ويخرج منها أخيراً إلى يد العسكر الذين فشلوا في الاختبار، وفرّطوا نتيجة لقلّة نضجهم وغبائهم السياسي بمعظم الرصيد الذي راكمته المعارضة في السنوات الماضية.
خاتمة
هذا لا يعني نجاح السلطة التي يمثّلها حزب العدالة والتنمية في إخضاع المجتمع التركي لنسق واحد مهيمن، ولكنه مؤشّر على الحيوية الفائقة التي يتمتع بها هذا الحزب خلافاً لأحزاب المعارضة التي تفتقر ليس فقط إلى حيوية مماثلة، بل أيضاً إلى القدرة على التنسيق بين حراكها الاعتراضي والنفوذ الذي يتمتّع به معارضون آخرون داخل أجهزة الدولة. الجمع بين الأمرين هو العامل الوحيد الذي سيسمح للمعارضة بمجابهة حكم يعتمد على ميليشيات شعبية ونفوذ كبير داخل أجهزة الدولة المختلفة. وبفقدانها لهذه الورقة بعد اعتقال معظم الكوادر التي كانت تؤمّن هذا التواصل، تصبح المعارضة ليس فقط في موقع ضعف، بل في حالة هزيمة كاملة أمام السلطة التي تمتلك كلّ شيء في البلاد تقريباً، بما في ذلك أدوات الهيمنة التي تُعَدّ في الحالة التركية مفتاح الوصول إلى السلطة، بعيداً عن الرطانة الخاصّة بصناديق الاقتراع. فهذه الأخيرة لم تكن يوماً إلا غطاءً لممارسة الهيمنة عبر القوّة المادية التي يمتلكها هذا الحزب أو ذاك – وقد رأينا بعضها في حالة حزب العدالة والتنمية – بعد أن يكون قد سيطر على معظم مفاصل الدولة، تاركاً لمعارضيه مقاعدَ برلمانية هزيلة وشارعاً مليئاً بمؤيّديه المستعدّين للموت من أجله.