ترشح بايدن للرئاسة: بين الجبهة الداخلية الأمريكية وجبهة الصراع العالمي
موقع العهد الإخباري-
حيّان نيّوف:
رسميًا أعلن الرئيس الأمريكي الحالي الديمقراطي جو بايدن ترشحه للانتخابات الرئاسية الأمريكية لولاية جديدة في العام 2024، في خطوة شكلت مفاجأة للكثير من المتابعين والمهتمين بالشأن السياسي داخل الولايات المتحدة وخارجها، على اعتبار أن بايدن متقدم في السن حيث تجاوز الثمانين من عمره وظهرت عليه مؤخرًا ملامح الشيخوخة وأمراضها الجسدية والعقلية في أكثر من مناسبة عامة.
وعلى الفور، سارع أعضاء الحزب الجمهوري إلى توجيه سهامهم إلى بايدن معتبرين ترشحه انفصالًا عن الواقع، وحذروا من مخاطر نجاحه في الانتخابات على الولايات المتحدة الأمريكية.
الرئيس الأمريكي السابق والمرشح للانتخابات الرئاسية المقبلة عن الحزب الجمهوري دونالد ترامب شن هو الآخر هجومًا عنيفًا على بايدن متهمًا إياه بقيادة الولايات المتحدة نحو حرب عالمية ثالثة غير مستعدة لها وقريبة جدًا.
في المواقف الخارجية، كانت لافتة التصريحات التي أطلقها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف والتي ألمح فيها إلى ذات الموضوع ضمنًا بالقول إن “هناك عملية عسكرة لأوروبا لاحتواء روسيا وإن هناك شخصًا معينًا يريد حربًا عالمية ثالثة”.
فما هي الخلفيات والانعكاسات التي يمكن الاستدلال منها وعليها للوقوف عند إعلان بايدن المفاجئ عن ترشحه للانتخابات الرئاسية، سواء على صعيد الجبهة الداخلية الأمريكية أو على صعيد جبهة الصراع الدولي، والترابط بين هذه وتلك؟
• على صعيد الجبهة الداخلية الأمريكية
لم يعد خافيًا على أحد حجم الانقسام داخل المجتمع الأمريكي بشقيه السياسي والاجتماعي وما يتعلق بكل منهما، ظهر ذلك واضحًا منذ مقتل المواطن الأمريكي الأسود “جورج فلويد” خنقًا على يد قوات الشرطة الأمريكية وما تبعه من احتجاجات خلال فترة حكم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وصولًا إلى ما حصل خلال وبعيد الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة التي ساهمت بإخراجه من البيت الأبيض ودخول خصمه الديمقراطي بايدن، وما تخلل ذلك من احتجاجات كان من مظاهرها ما عرف باقتحام الكابيتول “مبنى الكونغرس الأمريكي”.
هذا الانقسام الذي تجلى بمظاهر عدة لم يكن وليد تلك المرحلة، بل يمكن إرجاعه إلى الأزمة المالية التي ظهرت في العام ٢٠٠٨ على اثر الغزو الأميركي للعراق، وتعمق لاحقًا حتى وصل إلى داخل الدولة العميقة التي تمثلها شركات المال والسلاح والنفط والإعلام والبرمجيات ومجمع الاستخبارات والبنتاغون وغيرها، وأول ما أفرزه هذا الانقسام كان وصول الرئيس الأمريكي السابق “ترامب” إلى البيت الابيض والذي خرج بخطابه الأول الشهير معلنًا عن استراتيجية جديدة تهدف لنقل الولايات المتحدة من العولمة إلى الوطنية وما يعنيه ذلك من انكفاء على الصعيد العالمي على مستوى الحروب والتجارة والاقتصاد والمعاهدات الدولية، حيث شكل خطابه في حينها زلزالًا أصاب الدولة العميقة وما يتبع لها من شركات عابرة للحدود وأحدث انقساما شاقوليا بداخلها ما لبث أن انتقلت تجلياته للمجتمع الأمريكي لاحقًا، وهو ما استوجب لاحقًا إعادة رص الصفوف واستجماع القوّة من قبل الجناح المعارض له والمتضرر من سياساته لإسقاطه في الانتخابات الرئاسية عام ٢٠٢٠، تلك الانتخابات وما تبعها من أحداث الكابيتول والتي لم يعترف ترامب بنتائجها حتى اليوم، وفي ذات الوقت لم يتخلَّ عن جموحه للعودة إلى البيت الأبيض ولأجل ذلك أعلن ترشحه للانتخابات القادمة للعام ٢٠٢٤ مدعومًا من الجناح المؤيد له داخل الدولة العميقة التي لطالما واظب على مهاجمتها، وهذا الترشح استدعى الضغط عليه عبر تفعيل العديد من الملفات القضاىية ضده والتي تم تحويله بموجبها للمحاكمة في قضايا عدة، ولاحقًا التحرك قضائيًا ضد المؤيدين له وعلى رأسهم الملياردير “إيلون ماسك” مالك شركات “تويتر وتسلا وستارلينك للأقمار الصناعية”، وكذلك ضد شبكة “فوكس نيوز” العائدة لإمبراطور الإعلام، اليهودي “روبرت مردوخ” بتهمة التضليل والتحريض في حادثة اقتحام الكابيتول.
كل ذلك لم يكن كافيًا لثني ترامب عن الترشح ولا يبدو أنه سيقف عائقًا أمام ذلك، بل إن كافة المؤشرات تدل على أنه سيحسم الترشح عن الحزب الجمهوري لصالحه، مما استدعى إعادة التفكير والدفع بترشيح بايدن من جديد عن الحزب الديمقراطي من قبل خصوم ترامب من المتضررين داخل الدولة العميقة من دعاة العولمة والشركات العابرة للحدود.
• على صعيد جبهة الصراع العالمي
شكلت استراتيجية بايدن التي تأخر في الإفصاح عنها بعيد وصوله إلى البيت الأبيض سببًا كافيًا لعودة الصراع العالمي إلى أيام الحرب الباردة، وربما إلى حدود تحاكي الأحداث التي وقعت في العقود الأولى من القرن الماضي بعد أن أعلن فيها عن خططه لمواجهة النفوذ الروسي والتمدد الصيني وإعادة توحيد أوروبا والناتو بقيادة الولايات المتحدة، وخاصة مع انطلاق الحرب الأوكرانية التي تسببت بها إدارة بايدن وما تخللها من دعم عسكري مفتوح لأوكرانيا ونقل للسلاح والعتاد المتطور الى شرق أوروبا وضم فنلندا لحلف الناتو والاقتراب أكثر فأكثر من حدود روسيا والعقوبات الشاملة والواسعة ضدها.
ولا يمكننا فهم العلاقة التي تربط ذلك كله بترشح بايدن للرئاسة مجددًا دون العودة إلى الزيارة التي قام مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية “وليم بيرنز” إلى موسكو في أواخر العام ٢٠٢١ أي قبل انطلاق العملية العسكرية الروسية في الدونباس بثلاثة أشهر، والتي التقى خلالها برئيس المخابرات الروسية، ورئيس مجلس الأمن القومي الروسي، وأجرى اتصالًا مطوّلًا مع بوتين، والتي وبحسب ما تسرب عنها لاحقًا وفقًا لمصادر روسية أنها هدفت بالدرجة الأولى إلى الحصول على ضمانات من موسكو بعدم تدخلها في الأحداث الداخلية التي يمكن أن تندلع في الولايات المتحدة في حال غياب بايدن لأية أسباب صحية أو غير صحية، أو نتيجة انتخابات الكونغرس النصفية أو انتخابات الرئاسة في العام ٢٠٢٤، حيث تعتقد واشنطن أن روسيا لعبت دورًا في الأحداث والانتخابات السابقة وما أعقبها من اقتحام الكابيتول، وأنها من الممكن أن تقف إلى جانب ترامب.
في تلك الزيارة قدمت موسكو هي الأخرى مطالبها التي شملت ورقة الضمانات التي تطالب بها، وتضمنت في وقتها “أن تكون أوكرانيا دولة حيادية، وأن تتم العودة لاتفاق مينسك، وأن يتوقف توسع الناتو شرقًا، وأن تسقط عضوية الدول التي انضمت للناتو بعد سقوط الاتحاد السوفياتي”، ولعل هذا المطلب الأخير هو ما تسبب بفشل زيارة “بيرنز” لموسكو والتي استمرت يومين متتالين.
ولاحقًا لتلك الزيارة التي كانت تشكل الفرصة الأخيرة بين الطرفين، اندلعت الحرب الأوكرانية، وكان لا بد أن تبدأ موسكو بعمليتها العسكرية استباقيًا في أوكرانيا بعد أن تيقنت أن الولايات المتحدة قد أعدت العدة لتهديد روسيا عبر أوكرانيا.
ربما وجدت واشنطن أن سقف المطالب الروسية مرتفع جدًا، وأن الثمن الذي يجب أن تدفعه سيكون باهظًا للغاية مقابل ما ستحصل عليه، وأنه بإمكانها تهديد روسيا بذات الطريقة الذي تخشاها، أي عبر التدخل في الشأن الداخلي الروسي، وهو ما لجأت إليه لاحقًا من خلال محاولات بعض النواب الديمقراطيين في الكونغرس لتقديم مشروع قرار يلزم الرئيس بعدم الاعتراف بشرعية بوتين في حال ترشح للانتخابات الرئاسية الروسية في العام ٢٠٢٤، وكذلك ما صرح به بايدن خلال زيارته لبولندا في آذار من العام ٢٠٢٢ عندما قال “إن بوتين لا يجب أن يبقى رئيسًا لروسيا” قبل أن تتراجع الولايات المتحدة عن تلك التصريحات واصفة إياها بأنها زلة لسان من خارج النص المكتوب، وحقيقة الأمر أنها لم تكن زلة لسان بل كانت تعبيرًا مقصودًا ومتعمدًا.
كل ذلك يعيدنا إلى تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عقب إعلان بايدن ترشحه للانتخابات الرئاسية لولاية ثانية والوقوف عند التناغم الواضح بين تصريحات لافروف وترامب حول ذات الموضوع، واتهاماتهم له بالسعي لقيادة العالم إلى حرب عالمية ثالثة.
بالمحصلة؛ يمكن القول إن ما جرى وسيجري لاحقًا، والتبدل الحاصل في الإستراتيجيات الأمريكية في السنوات الأخيرة من منتصف ولاية ترامب حتى منتصف ولاية بايدن، يعكس ما يجري على صعيد الجبهة الداخلية الأمريكية، وهو ما عكسته أحداث أخرى لاحقة في العالم على مستوى قضايا عديدة، وترك تأثيره على صعيد جبهة الصراع العالمي، وليس من المستبعد أن يكون الإصرار على ترشيح العجوز بايدن للرئاسة، يهدف إلى تلبيسه مسؤولية أي قرار متهور يمكن أن تضطر الدولة العميقة إلى اللجوء إليه في ظل الصراع العالمي المحتدم مع محور الشرق.