تحييد المخاطر بين العالمين المادي والأيديولوجي
صحيفة البعث السورية-
عناية ناصر:
تختار غالبية دول الجنوب التخفيف من مخاطرها الإنمائية من خلال الاقتراب من الصين، في المقابل تتحدث الأقلية الغربية بقيادة الولايات المتحدة، بسبب حسابات محصلتها الصفرية ونية الهيمنة، عما يُسمّى بـ”تحييد مخاطر” الصين. لقد تمّ تنسيق هذه السياسة من خلال نادي الدول الغنية في مجموعة السبع والذي يسعى إلى الحفاظ على الامتيازات غير الديمقراطية للولايات المتحدة على بقية العالم.
لقد أثار الغرب أن الصين محفوفة بالمخاطر، بسبب عدم التزامها بالقواعد الدولية، وبالتالي فهم برروا صعود الصين باعتباره خطراً. ومع ذلك، فإن هذه الحجة زائفة، وذلك لأن الصين تلتزم بالقواعد الدولية، لكن ليس “النظام القائم على القواعد” الغامض، وهو مصطلح صاغته الولايات المتحدة كسلاح لقمع الدول التي تعتبرها “تهديداً” لسعيها وراء الهيمنة العالمية.
في الواقع، عندما يتعلق الأمر بالقواعد الدولية، فإن نظرة سريعة على الدول الغربية تظهر أنه على الرغم من المقاومة الجماعية، كان من المعتاد إرسال قواتها العسكرية للمشاركة في الغزو غير القانوني للعراق بقيادة الولايات المتحدة، والذي أشعل شرارة كل أنواع المخاطر في الشؤون العالمية حتى يومنا هذا.
لا يأتي الخطر على السكان الغربيين من قبل الصين، بل من التلاعب بالقواعد الأمريكية الذي يستمر في التدخل في سيادة الصين كانتهاك الخط الأحمر التايواني، والعقوبات الأمريكية أحادية الجانب. قد تؤدي هذه الإجراءات إلى خطر حدوث المزيد من النتائج العنيفة في شرق آسيا، والتي من شأنها أن تكون لها نتائج عالمية كارثية. وبالتالي، فإن تحييد المخاطر ليس أقلّ من المحاولة المستمرة لمنع تطور الصين، والحفاظ على الهيمنة العسكرية والاقتصادية العالمية للولايات المتحدة.
بسبب صعود الصين وانفتاحها السلمي، توافدت الدول الغربية إلى الصين للاستثمار والربح بشكل كبير من العمالة الرخيصة والسوق الاستهلاكية الضخمة في الصين، فخلال الأزمة المالية لعام 2008، التي انتشرت في جميع أنحاء العالم، خفف الإقراض والنمو الصيني من المخاطر التي يتعرض لها الاقتصاد العالمي، والتي نجمت عن الاستخدام غير المسؤول لرأس المال الأمريكي.
إن حكمة الصين من البناء الاجتماعي والاقتصاد والجغرافيا السياسية هي شيء يجب دراسته والتعامل معه، وبالنظر إلى أن الصين قد أثبتت أنها الشريك الأكثر ثباتاً الذي يمكن للمرء التعامل معه، فإن تحييدها يعدّ بحد ذاته مخاطرة كبيرة. في المقابل، إن الارتباط بهيمنة الولايات المتحدة أمر محفوف بالمخاطر بالنسبة لأولئك الذين يقدرون التنمية والسلام.
من الواضح أن هناك تناقضاً بين الظروف المادية الحقيقية التي ينبغي استخدامها لتحديد المخاطر العالمية، والاستخدام الأيديولوجي الشخصي للمخاطر باسم المصالح الأمريكية. يمكن استخدام هذا التناقض لإيقاظ وعي الجماهير، والنخب الغربية للسعي إلى التضامن مع بقية دول الجنوب النامية، التي تعدّ الصين جزءاً منها، وهم بحاجة إلى إدراك سبب دعم الأغلبية العالمية للصين.
قد يشير تغيير السرد من “فك الارتباط” إلى “تحييد المخاطر” إلى فك ارتباط تطرف الدولة الأمريكية العميقة مقابل الدول الأوروبية التي تدور في فلكها، والتي ليست على استعداد للانضمام إلى الولايات المتحدة الاقتصادية والعسكرية المحفوفة بالمخاطر، وهي مهمة انتحارية لكنها مع ذلك أضعف من أن تقاوم علانية.
بعد كل شيء، استند الصراع في أوكرانيا إلى تقييم مخاطر أخرى، حيث تم إخبار الألمان بأن استيراد الطاقة الروسية أمر محفوف بالمخاطر. ومع ذلك، أصبح لديهم الآن مورد واحد أقل، وأصبحوا تحت رحمة واردات الطاقة الأمريكية الأكثر تكلفة. من الواضح أن المقاومة والاحتجاج العلني محفوفان بالمخاطر كما ثبت بشكل جيد من عدم مقاومة مزاعم “نورد ستريم” الخطيرة، والتي تدّعي مزيداً من انتهاك القواعد الأمريكية من خلال القيام بعمل إرهابي ضد “حلفائها”.
مع انخفاض مستويات المعيشة الأوروبية، هناك وعي متزايد لدى الأوروبيين لموازنة الخطر الأمريكي مع استقرار الصين. وفي هذا الخصوص أشارت فرنسا إلى استعدادها لعصيان الهيمنة الأمريكية من خلال الاقتراب من الصين عن طريق إعادة التأكيد على مسألة تايوان. كما قرّرت ألمانيا أنها لن تتخلى عن السوق الصينية بأمر من الولايات المتحدة.
يجادل البعض أنه في العالم الحقيقي لن يكون هناك فرق بين نتائج فك الارتباط، وتحييد المخاطر، لأن فك الارتباط سيكون مستحيلاً اقتصادياً. ومع ذلك، فإن الوعي على الأقل بأن الصين لا يمكن فصلها عن تايوان. من هنا، يجب الانتظار ورؤية ما سيترتب عليه نهج تحييد المخاطر في نهاية المطاف. ربما ستواجه جهود تحييد المخاطر، مهما كانت، وببساطة المزيد من الحواجز المادية. بعد كل شيء، لا شيء يمكن أن يغيّر حقيقة أن ألمانيا، بعد إجراء تقييم حقيقي للمخاطر، تنقل التصنيع إلى الصين. وبالتالي، قد يكون التخلص من المخاطر في نهاية المطاف مصطلحاً أيديولوجياً أجوفاً، تماماً مثل خطة إعادة بناء عالم أفضل.
بالنسبة للأوروبيين والغرب الأوسع، يمكن أن تكون لغة المخاطرة هذه حافزاً لفحص أعمق للقضايا الجيوسياسية، والعلاقات العالمية بناءً على حسابات واقعية لتجنّب المخاطر، وقد يعودون إلى رشدهم ويقررون أن عدم اندماج أوروبا في الأسواق الأوسع لأوراسيا بسبب العقوبات، والحرب، وضعف اتصال البنية التحتية يهدّد ازدهارهم.
يؤدي عدم الاندماج إلى إهدار الإمكانات الجغرافية الطبيعية لأوروبا ومزاياها الاقتصادية من خلال المخاطرة بتحويلها إلى “جزيرة” غير طبيعية تعتمد على طرق عبر المحيط الأطلسي من أجل رفاهيتها الاقتصادية. إن تحييد المخاطر عبارة عن حسابات مادية في العالم الحقيقي لا تستند إلى الدعاية ورغبات الآخرين، ناهيك عن الآخرين الذين أثبتوا أنهم أكثر الفاعلين خطورة عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد العالمي والسلام والتنمية.
وختاماً، يجب على الغرب وبقية العالم أن يضعوا هذه الحقيقة الأساسية في الاعتبار، وأن يقوموا بتقييم نهج تحييد المخاطر بناءً على العالم المادي الحقيقي، وألا يخاطروا بشكل أعمى بمستقبلهم من خلال المقامرة باتخاذ نهج تحييد المخاطرة المهيمنة على سبب أيديولوجي فاشل.