تحقيق خاص من المدينة المنكوبة: هكذا أصبحت حمص
موقع إنباء الإخباري ـ
حمص ـ آيلة الخواجة:
كثر الكلام في على وسائل الإعلام عن حمص، تفاصيل كثيرة، تحليل، توقعات، أحداث، أخبار متسارعة، لتغرق في التفاصيل، كل ذلك وأنت متلقًّ، تنتظر أن تصلك الأخبار. ولكن إذا أردت أن تبحث عن القصص الحقيقية الصحيحة، والأخبار المؤكدة، عليك أن تنزل إلى الشوارع لتتجول بين الناس، أصحاب المآسي والأخبار، أصحاب الأحداث، لتسمعها منهم، لا كأخبار عاجلة، أو حروف مرسومة خالية من المشاعر، بل كقصص مليئة بالأحاسيس، تغص بالآلام و الدموع. فهذا الشعب لم يعد هو نفسه قبل الأحداث، بل همومه زادت وأثقلت قلبه وفكره، كيف لا وقد عهد مدينته لسنوات طوال مدينة هادئة، صغيرة، بسيطة، رغم وسائل الترفيه التي كثرت نسبياً في الأعوام الأخيرة، لقد عرفت هذه المدينة بعض المطاعم ومراكز الأطفال، عدة مقاهي، أسواق مزدحمة، ضحكات تعلو هنا وهناك، وأبواق سيارات اعتاد الناس التذمر منها.
كانت المستشفيات تعج بالأطباء والجامعة تمتلئ بالطلاب، فالمكاتب والمدارس والحدائق والمقاهي و المطاعم والملاعب والأسواق كانت جزءاً من حياتنا لم نعره اهتماماً، ولم نخف يوماً من فقدانه.
وفجأةً، خلال أشهر قليلة أخليت المدارس لتستقبل النازحين، الذين ملأوا الحدائق أيضاً. أصبح الوصول لأماكن العمل خطراً، أقفلت المطاعم والمقاهي، وأغلقت الأسواق.
هكذا كالكابوس المخيف تبخر كل شيء، بل أصبحت تنظر وراءك لترى تلك الأيام وكأنها سراب بعيد، لقد تسارعت الأحداث، وتسارعت الفوضى، والمشاكل والخلافات والأحزان والفقدان. إشاعات تنتشر، أكاذيب تنقل، لتشعر وأنت تحاول فهم ما يجري وكأنك تحاول الإمساك بالماء، قصص تجري من حولك، تثير في نفسك الدهشة، وفي قلبك الحزن.
هز الدمار أنحاء المدينة، وانهارت مع البيوت آمال وأعمال وجنى أعمار، توقفت الحياة لفترة ليست قصيرة، ولم يعد هناك إمكانية للنزهات أو التسوق أو العمل. ماتت الحياة.
لم يعتد سكان حمص الحياة في جو الحرب، لم يعتادوا النوم على أصوات الرصاص، لم يعتادوا رؤية أثر لرصاصة طائشة داخل بيتهم، لم يعتادوا رؤية الجثث ملقاة على قارعة الطريق، أو مراقبة روح شاب وهي تفارق جسده.
كنت تسمع صوت سيارة الاسعاف مرة كل يومين أو ثلاثة، وتمشي في الشارع دون أن تلتفت خوفاً من أن تتعرض للخطف، أما عندما تتعرف على صديق جديد فلن يخطر لك أن تسأله عن دينه أو انتمائه، لأن تلك تفاصيل كانت غائبة عن حياتنا.
أما عن الأحداث التي توالت، فلن أستطيع التحدث عنها أو تعدادها ضمن تسلسلها المنطقي، فقد كانت هذه الأحداث كالأمواج التي تضربك من حيث لا تعلم، ثم تنساب بسهولة حين تتوقع ضربتها، ولكنني أستطيع التكلم عن حمص بعد النكبة، عن الأسواق الخالية، والطلاب الذين حُرموا من المدارس، والعمال الذين فقدوا أعمالهم، والأطفال الذين أصبح خروجهم للعب خارج المنزل حلماً بعيد المنال، والعائلات المهجّرة، والفقر الذي أخذ ينهش هذا المجتمع.
لكن رغم كل الظروف القاسية التي فرضت، والصعوبات المادية والمعنوية التي خلفتها الأوضاع على السكان، لم يعد الجلوس يرضي الناس، فبدأوا الخروج الى الأحياء الآمنة، نصبوا العربات في أطراف الشوارع، فرشوا الأرصفة ببضائعهم، رموا همومهم جانباً طالبين الحياة من جديد، ولو اضطروا إلى البدء من الصفر، تمسك السكان بأي فرصة تسنح لمزاولة أعمالهم، أصبحت عندما تدخل الى روضة الحي بدل أن تجد الألعاب والأراجيح ستجد سيخاً للشاورما! وطاولتين لمن يريد الجلوس. أما المكتبة فإلى جانب الكتب والدفاتر والقرطاسية عرضت الشالات، وبعض لوازم الفتيات، وبالنسبة لصالون تجميل النساء تحول لبيع الملابس، وقد لا يكون عمل الرجل بنفس حجمه قبل الأزمة، فكثير من تجار السوق الكبار أصبحوا يعرضون بضائعهم على بسطات يضعونها على الأرصفة، بل وعرضوا سلال الخضار إلى جانبها.
وأخذت هذه الأسواق الصغيرة تزدحم، وترى الناس يبحثون ويشاهدون، يشترون ويتبادلون الاحاديث، غير آبهين بأصوات الرصاص البعيدة، لقد فقد حيي وغيره معالمه، لكن شروط الحياة الصحية تغيرت ولم تعد هي نفسها، فأصبح جلّ ما يتمناه الرجل هو خروجه إلى العمل ضمن جو من الأمان.
لقد ظل أهل حمص يتناسون نسائم الموت التي ما زالت تهب بين حين وآخر، وبعد أن أوقفوا حياتهم من عمل وتعليم وعلاقات اجتماعية، تراجعوا عن هذا القرار، وعادوا ليعيشوا حياتهم.
ولكن أكثر القصص التي آلمتني هي عندما جلست مع قريبة لنا، نتذكر حمص خلال أيام الأمان التي مضت، أيام السهر والسمر والضحك والنزهات والأسواق وجلساتنا الطويلة مع الأصدقاء في المقاهي، ثم تذكرنا رحلاتنا السياحية في الصيف إلى البحر أو الجبال، التي امتنعنا عنها مؤخراً. وفي سياق الحديث تذكرت ذهابنا الى الملعب البلدي بحمص لتشجيع فريقنا المفضل، فقصصت لها تفاصيل ذلك اليوم بكل ما أضحكنا فيه، ثم قلت لها: لقد لوحظ شيء غريب مؤخرا ، و هو أسراب من الغربان تحلق فوق الملعب ذاته، تبتعد و تفترق ثم تعود و كأنها غيوم سوداء لتهوي وتوشك على الارتطام بالأرض، فأجابتني ببرادة عهدناها مؤخراً لدى سكان المدينة، نعم يا عزيزتي، لقد رأيتها، إنها طيور تتجمع في أماكن روائح الدماء .
مقال موجع عن واقع مدينتنا.. كل التوفيق لك أيلة.. رائعة