تحفُّز عسكري واضح.. موسكو في العين البريطانية
موقع قناة الميادين-
محمد منصور:
الانتقادات البريطانية الداخلية للفجوة الكبيرة في القدرات العسكرية البريطانية مقارنة بالقدرات الروسية، تزايدت خلال الفترة الأخيرة.
ربما من نافلة القول ذكر أن المعسكر الغربي، بصفة عامة، ما زال ينظر إلى الوريث الشرعي للاتحاد السوفياتي – روسيا – كعدو تقليدي مستمر، لكن اللافت، في هذا الصدد، هو أن بريطانيا باتت أكثر تشدداً من الولايات المتحدة الأميركية وحلف “الناتو” في ما يتعلق بهذا الأمر.
التفاعلات العسكرية بين لندن وموسكو، خلال الأشهر القليلة الماضية، كانت دليلاً أساسياً على هذا التشدُّد البريطاني، والذي لم يَظهر على نحو واضح في بنود الخطة الدفاعية الجديدة لتحديث الجيش البريطاني، والتي أعلنها رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، أمام مجلس العموم، إلاّ أنه تم كشف بعض بنود هذه الخطة في آذار/مارس الماضي، ضمن المراجعة البريطانية المتكاملة للأمن والدفاع والتنمية والسياسة الخارجية.
ذكرت هذه المراجعة، بوضوح، أن موسكو تمثّل “التهديد المباشِر والأكثر حِدّةً للمملكة المتحدة والمنطقة الأوروبية الأطلسية”، وذلك عبر تشكيلة متكاملة من التهديدات، تتراوح بين التهديدات الرقمية والهجمات الإلكترونية، والتمويلات غير المشروعة للأنشطة المهدِّدة للأمن القومي البريطاني، وعمليات التجسس والتدخُّل في العمليات الانتخابية. وتُضاف إلى ذلك التهديدات المتعلقة بتعاظم القدرات العسكرية الروسية غير التقليدية.
الخطة البريطانية كانت تستهدف رفع كفاءة الكتلة الأساسية في التسليح البريطاني، بما في ذلك القدرات النووية والصاروخية، من أجل معالجة نقاط الضعف التي بدأت تظهر في المنظومة التسليحية البريطانية خلال السنوات الأخيرة، بسبب تقادُم الوسائط الهجومية الرئيسية في هذه المنظومة، وبطء عمليات الإحلال والتجديد، وأيضاً البحوث المخصَّصة لإنتاج منظومات هجومية ودفاعية جديدة.
تعتزم لندن تحقيق ذلك عبر تخصيص ميزانية ضخمة لتنفيذ بنود هذه الخطة، تصل قيمتها الإجمالية إلى 111.3 مليار دولار، على مدى أربع سنوات، تتضمَّن ميزانية مصغَّرة تبلغ قيمتها ستة مليارات جنيه إسترليني، يتم تخصيصها للبحوث الخاصة بالتحديث العسكري وتطوير أنظمة الحرب الجوية. وتتضمَّن الخطة أيضاً إمكان الزيادة التدريجية للميزانية الإجمالية المخصَّصة للتحديث العسكري، ويمكن زيادتها بالتدريج لتصبح قيمتها الكلية نحو 278.4 مليار دولار خلال نحو عشر سنوات.
مشاكل القوة البريطانية المدرَّعة
من النقاط البارزة في هذه الخطة، تركيزها على تطوير القوة البريطانية المدرَّعة، وذلك من زاوية مواجهة القوة الروسية الموازية. لقد تضمّنت التقارير الأخيرة للجنة الدفاع والأمن القومي في مجلس العموم، انتقادات لاذعة للحالة العامة للكتائب البريطانية المدرَّعة، سواء في مستوى التسليح، أو الجهوزية القتالية. وذكر أحد التقارير أن أيّ مواجهة بين المدرَّعات البريطانية والقوة المدرَّعة لخصم مُناظر لبريطانيا في أوروبا الشرقية (المقصود هنا بالطبع روسيا)، من المرجح ان تنتهي في غير مصلحة بريطانيا، مشيراً إلى أن السياسة البريطانية، غير الفعّالة فيما يتعلق بصفقات تحديث الجيش خلال الأعوام القليلة الماضية، أدّت إلى تقادُم معظم عربات القتال المدرَّعة الموجودة في الترسانة البريطانية بصورة عامة، ونحو نصف قوة الدبابات الموجودة حالياً في الخدمة، على نحو خاص.
انقسمت قيادة الجيش البريطاني بشأن الطريقة المُثلى لتحديث ترسانتها القتالية المدرعة، وعمادها نحو 227 دبابة قتال رئيسية من نوع “تشالينجر-2″، بين من يرى أن الحاجة لم تعد موجودة، في الحروب الحديثة، إلى الأرتال المدرعة الثقيلة والكثيفة التدريع والتسليح، وأن مستقبل الصراعات المسلَّحة يكمن في الأنظمة المتحكَّم فيها عن بُعد، وفي الهجمات السيبرانية، والتطبيقات الفضائية القتالة، وبين من يرى أن الدبابات ما زالت تمثّل سلاحاً ميدانياً أساسياً في الحروب التقليدية، ويجب إخضاعها للتعديل والتحديث.
لمواجهة هذا الوضع، نصّت الخطة الدفاعية البريطانية الجديدة على أن يتم تحديث بين 150 و170 دبابة من هذا النوع، عبر حزمة تحديثات شاملة، تضم أبراجاً قتالية مدرّعة جديدة، ومدافعَ رئيسية حديثة، وأجهزة استشعار وتهديف متطورة، إلى جانب محرِّكات جديدة، على أن يتمّ تفكيك الدبابات المتبقية – ويبلغ عددها في هذه الحالة بين 57 و77 دبابة، والاستفادة من أجزائها كقطع غيار للدبابات التي سيتم تحديثها.
وتضمّنت هذه الخطة بنداً خاصاً بعربات القتال المدرعة، بحيث تنص على أن يتم التخلي بالكامل عن نحو 767 عربة قتال مدرعة، من نوع “واريور”، والتي يعود تاريخ صنعها إلى حِقبة ثمانينيات القرن الماضي، بحيث يتم تخزينها ضمن المعدات الاحتياطية، أو بيعها – وهو الاحتمال المرجَّح – لإحدى الدول الصديقة لبريطانيا، علماً بأن هذا النوع من عربات القتال المدرعة سبق أن خضع لعمليات تحديث، عامَ 2015، بقيمة مليار دولار، نفّذتها شركة “لوكهيد مارتن” الأميركية.
ونصّت الخطة أيضاً على شراء ما يصل إلى 500 عربة قتال مدرَّعة، من نوع “بوكسر”، والتي كانت باكورة برنامج تصنيع مشترك جمع المملكة المتحدة وهولندا وألمانيا، لكن خرجت منه بريطانيا في وقت سابق، ثم عادت في آذار/مارس 2018. وهذا البند ليس جديداً، فلقد وقّعت بريطانيا، في تشرين الثاني/نوفمبر 2019، عقداً بقيمة 2.3 مليار إسترليني، لشراء 500 عربة من هذا النوع، إلاّ أن الجديد في البند الخاص بهذه الصفقة، أنه تم تسريع بدء تسلُّم هذه العربات، ليصبح بدايةَ مطلع العام المقبل، عوضاً من عام 2023، بحسب ما نص عليه العقد الرئيسي لشراء هذه العربات. وهذا كله بهدف سَدّ الفجوة التي ستنتج من خروج عربات “واريور” من الخدمة.
المواجهة البحرية البريطانية الروسية قبالة شبه جزيرة القرم
في حزيران/يونيو الماضي، أعادت المواجهة غير المسبوقة بين البحرية البريطانية والبحرية الروسية قبالةَ ساحل شبه جزيرة القرم، تأكيدَ التحفُّز العسكري المتزايد من لندن تجاه روسيا، وذلك من زاوية عدم اعتراف بريطانيا حتى الآن بالسيادة الروسية على شبه الجزيرة، إلى الدرجة التي دفعتها إلى القيام بتحرُّك بحري غير مسبوق، أبحرت فيه المدمّرة “ديفيندر” ضمن 12 ميلاً من شبه الجزيرة، الأمر الذي شكّل فعلياً اختراقاً للمياه الإقليمية الروسية.
والمثير في هذا الصدد أن كلاً من بريطانيا وأوكرانيا قامتا، في الشهر نفسه، بالتوقيع على اتفاقية لتحديث قدرات البحرية الأوكرانية. وتمّت مراسم التوقيع على متن المدمرة “ديفيندر”. الرهان البريطاني، في ذلك التوقيت، كان على أن البحرية الروسية لن تقوم بردّ فعل “عنيف” على هذه الخطوة، لكن لندن فوجئت بقيام زوارق الدورية الروسية بإطلاق النيران التحذيرية قرب المدمّرة البريطانية، وبإلقاء القاذفات الروسية قنابلَها في مواضع قريبة من مسارها، ليصبح هذه الحادث الأولَ من نوعه منذ عام 1919، عندما أغرقت غواصةٌ روسية إحدى المدمرات البريطانية في خليج فنلندا.
الخطوة البريطانية كانت دليلاً واضحاً على تعاظم التوتر بين لندن وموسكو، وخصوصاً في المستوى البحري، الذي كان له حيزٌ كبير في الخطة الدفاعية البريطانية الجديدة، والتي تتضمّن شراء نحو ثماني فرقاطات مضادّة للغواصات من فئة “تايب-26″، وخمس فرقاطات من فئة “تايب-31”. ووضعت لندن أيضاً التحديثَ البحري النووي أولويةً أساسية، ضمن مسارين أساسيين: الأول تحديث صواريخ “ترايدنت -2” الباليستية والعابرة للقارات. والثاني تسريع عملية دخول الغواصات النووية الجديدة، من فئة “دريدنوت”، الخدمةَ في البحرية الملكية البريطانية، بدلاً من غواصات “فانجارد” المتقادمة.
النية البريطانية بشأن تحديث صواريخ “ترايدنت” التي تمتلكها، وتمثّل بالنسبة إليها سلاحَ الردع النووي الأول (والوحيد)، لم تكن جديدة، فلقد اتخذت الحكومة البريطانية هذا القرار، على نحو مبدئي، عام 2006، ورصدت مبلغاً يناهز 20 مليار جنيه استرليني، من أجل صيانة هذه الصواريخ وتحديثها. تفعيل هذا القرار تأخَّر حتى عام 2010، لكن طرأت مشكلة أخرى صعّبت مهمة تحديث هذه الصواريخ، هي مشكلة حالة الغواصات النووية الموجودة حالياً في الخدمة لدى البحرية الملكية، والتي يتمثّل الثقل الرئيسي فيها بأربع غواصات نووية من فئة “فانجارد”، دخلت الخدمة خلال الفترة بين عامي 1993 و1999، وتُعَدّ القوة الرئيسية، والمنوط بها تنفيذ دوريات أعالي البحار، بحيث حرصت البحرية البريطانية على أن تقوم كل منها، بالتناوب، بتنفيذ دوريات تمتد نحوَ ثلاثة أشهر، في بحار بعيدة عن الأراضي البريطانية. لكن، تعاني غواصتان منها على الأقل، حالياً، مشاكلَ تتعلَّق بالجهوزية القتالية.
خطورة عدم الجهوزية الذي يَتَّسم به نصف الغواصات النووية الرئيسية في البحرية البريطانية، تُضاف إليها مشاكل أخرى، منها أن غواصات هذه الفئة قد تظل في الخدمة إلى ما بعد عام 2030، وهذا يتعدّى فعلياً العمر الافتراضي لهذه الفئة من الغواصات، والمقدَّر بـ 25 عاماً. وسبب هذا يرجع إلى تأخُّر عمليات الإنتاج في برنامج الغواصات النووية الجديدة، من فئة “دريدنوت”، بحيث بدأت بريطانيا عامي 2016 و2019، بناءَ أوَّل غواصتين من هذه الفئة. وتستهدف البحرية البريطانية بناء أربع غواصات منها، وتقدَّر التكلفة الإجمالية لهذا البرنامج بنحو 31 مليار جنيه إسترليني (37 مليار دولار أميركي). لكن التأخير الكبير في عمليات التصنيع، يجعل من الصعب إدخال أول غواصة من هذه الفئة في الخدمة، قبل عام 2030. وبالتالي، تعمل البحرية البريطانية حالياً على تسريع عملية دخول هذه الغواصات الخدمةَ قَدْرَ الإمكان، لتجنُّب الخلل الذي سيطرأ على منظومة الردع البحرية البريطانية.
الوجود العسكري البريطاني عند التخوم الروسية
من أوجه التصعيد البريطاني ضد روسيا، تكثيفُ الوجود العسكري في التخوم الروسية، عبر تعزيز أنشطة عملية “كابريت”، التي تُعَدّ المِظلةَ المحددة للوجود العسكري البريطاني في شرقي أوروبا، حيث يتمركز نحو 850 جندياً بريطانيّاً في إستونيا، كجزء من وجود حلف “الناتو” في منطقة بحر البلطيق.
كما تقوم البحرية البريطانية حالياً بالعمل مع الدوريات البحرية لحلف “الناتو” في بحر البلطيق، بمعية القطع البحرية التابعة للاتفيا وليتوانيا وإستونيا. يضاف هذا الوجود إلى تمركز نحو مئة جندي بريطاني بصورة دائمة في بولندا، بالإضافة إلى الوجود الدائم لعشرات الجنود البريطانيين في أوكرانيا، ضمن مهمة “أوربيتال”، التي تقوم من خلالها القوات البريطانية بتدريب الجيش الأوكراني منذ عام 2015. ونفّذت لندن حتى الآن مهمة تدريب نحو 20 ألف جندي أوكراني خلال السنوات الخمس الأخيرة، ناهيك بعشرات المناورات الجوية والبحرية المشتركة.
انتقادات داخلية في بريطانيا لضعف الجهوزية القتالية
الانتقادات البريطانية الداخلية للفجوة الكبيرة في القدرات العسكرية البريطانية مقارنة بالقدرات الروسية، تزايدت خلال الفترة الأخيرة، وشملت حتى بعض كبار القيادات العسكرية السابقة في الجيش البريطاني، مثل البارون ريتشارد دانات، الذي شغل منصب رئيس الأركان العامة للجيش البريطاني بين عامي 2006 و2009، والذي اعتبر، في تصريحات نُشرت مؤخراً، أن الخفض المتكرِّر للميزانية العسكرية البريطانية أدّى إلى عدم أهلية الجيش البريطاني في الوقت الحالي لتقديم الدعم العسكري اللازم إلى الولايات المتحدة الأميركية.
وانتقد البارون دانات، على نحو خاصّ، مِلَفَّ شراء سلاح الجو البريطاني مقاتلات الجيل الخامس “أف -35″، والتي اعتبر أنها تمثل عبئاً كبيراً على الميزانية الدفاعية البريطانية، نظراً إلى أن سعر المقاتلة الواحدة يبلغ 80 مليون جنيه إسترليني، وتكلِّف كل طلعة جوية ينفذها هذا النوع من المقاتلات 90 ألف جنيه إسترليني في الساعة. وتضمّنت الخطة البريطانية الدفاعية الجديدة تقليص عدد المقاتلات التي ستحصل عليها بريطانيا من هذا النوع، ليصبح 48 مقاتلة فقط، بدلاً من 138 مقاتلة، وهو ما سيخلق فجوة إضافية في التسليح الجوي البريطاني مقارنة بالتسليح الجوي الروسي.
تعتمد لندن، في المدى المنظور، على تقليص هذه الفجوة اعتماداً على أنواع أخرى تمتلكها من المقاتلات، مثل مقاتلات “تايفون”، إلاّ أن الاعتماد الكلي سيكون على تسريع برنامج تصنيع مقاتلة الجيل السادس المحلية الصنع (“تيمبست”)، والذي تم الإعلان عنه للمرة الأولى عام 2018، وتشارك فيه شركتان بريطانيتان، هما “رولز رويس” و”بي آي أيه”، إلى جانب شركة “ليوناردو” الإيطالية. وهو، إن كان ما زال في مرحلة التجارب، فإنه يمثّل مستقبل سلاح الجو البريطاني، وخصوصاً إذا تمّ تخصيص موارد مالية كافية له بموجب الخطة الجديدة، التي تستهدف إدخال أول مقاتلة من هذا النوع في الخدمة بحلول عام 2035، لتكون بمثابة مقاتلة “صف ثانٍ” في مقابل مقاتلات “أف – 35”.