تحالفات أمنية لتطويق “جزيرة العالم”
موقع قناة الميادين-
محمد سيف الدين:
تعيد الولايات المتحدة صياغة شراكاتها الأمنية في سبيل احتواء الصين وتطويق صعودها الاستراتيجي. ما هي هذه الشراكات؟ وكيف تخدم الهدف منها؟
تشهد العلاقات الدولية في السنوات الأخيرة تطورات مفصلية مرتبطة بتشكّلات النظام الدولي الجديد، الذي تتبدى ملامحه من دون أن تُدرك حدوده وقواعده المكتملة، فقد شهد العالم انهيار معالم النظام العالمي الأحادي القطب، قبل أن تتشكل معالم النظام الجديد وأقطابه، نظراً إلى اختلاف محددات القوة وتطور مفاهيم الأمن والنفوذ والتأثير الدوليين.
وفي العقد الأخير، حدث انزياح في محور القوة العالمي باتجاه الشرق، بعد أن بقي على الدوام محصوراً في نصف الكرة الأرضية الغربية، الأمر الذي أدى إلى ازدياد قوة جذب الصراعات نحو الشرق، بعد أن كانت لقرونٍ طويلة متمحورةً حول منطقة “قلب العالم” في المساحة الممتدة بين غرب آسيا وشرق أوروبا، حيث مصادر الطاقة (في العقود الأخيرة) وخطوط نقلها.
ومع انتقال محور الصراع إلى الشرق الآسيوي، أعادت القوى الطامحة إلى التأثير الدولي صياغة رؤاها الاستراتيجية بما يتناسب مع هذا التطور، حتى شكّلت هذه الرؤى الجديدة نسقاً يزداد حضوره ووضوحه تحت عنوانٍ عريض وكبير: عصر الشراكات الاقتصادية والتحالفات الأمنية.
تحالف “Aukus”
يشكل التحالف الذي أعلنته قبل أيام كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا واحداً من الشراكات الأمنية الشديدة الدلالة، والمرتبطة بشكل الصراع المستقبلي مع الصين. لا يقتصر معنى هذا التحالف على غرض مواجهة بكين، بقدر ما يحدثه من ارتدادات على العلاقات الغربية-الغربية، وخصوصاً أنه أتى متلازماً مع قيام الدول الثلاث بالانقلاب على صفقة غواصات فرنسية لأستراليا، كانت تشكل مرتكزاً لاستراتيجية فرنسا في منطقة الهندو-باسيفيك.
وبموجب “أوكوس”، ستتضافر قوة الولايات المتحدة الهائلة مع القوة البحرية البريطانية، وهي التي لطالما كانت الأولى في العالم القديم، إذ ارتكزت في عمقها على نظرية جيوبولتيك ابتدعها هالفورد ماكيندر (1861-1947)، وهي تقسم العالم إلى عالم بحري وعالم برّي يشملان 3 مناطق: منطقة القلب، ومنطقة الهلال الداخلي، ومنطقة الهلال الخارجي، بحيث تكون “الجزيرة العالمية” هي الحلقة المتصلة من اليابسة بين أوروبا وآسيا وأفريقيا (ثلثا اليابسة)، بينما تكون الكتل اليابسة الأخرى الثلث الباقي، وتحيط بالجزيرة العالمية متمثلة بأميركا الشمالية والجنوبية وأستراليا، فيما تمثل البحار والمحيطات ثلاثة أرباع العالم، وتكون كتلة مائية متصلة أطلق عليها “المحيط العالمي” (World Ocean).
وبموجب هذه النظرة التي تشكل عمق الرؤية الجيوبوليتيكية الإنكليزية، فإن امتلاك القوة البحرية والسيطرة على الهلال الخارجي يشكلان حاجة قصوى، إذا ما أرادت بريطانيا أداء دور عالمي والبقاء ضمن القوى التي تؤدي دور القطب في النظام الدولي.
وبموازاة ذلك، تجتمع القوى الثلاث المحيطة بجزيرة العالم (أميركا وأستراليا وبريطانيا) في التحالف الجديد، لمواجهة القوة الرئيسة التي تطلق مشروعها الضخم في منطقة “قلب العالم”، وهو مشروع “الحزام والطريق” المتضمن اتجاهين رئيسين يصيبان بدقة أسس نظرية ماكيندر؛ الطريق، وهو يمتد من الساحل الشرقي للصين نحو أوراسيا، وصولاً إلى أوروبا الغربية، أي أنه يجتاز منطقتي قلب العالم والهلال الداخلي، والحزام، وهو الإطار البحري الذي يصيب نقطة الهلال الخارجي في نظرية ماكيندر.
وبذلك، يتخذ تحالف “أوكوس” معناه المرتبط بالرؤى الجيوبوليتيكية لدى الدول الأطراف فيه، وتتضح الأسس التي بُني على أساسها، مستبعداً الحلفاء الأوروبيين للدول الثلاث. ووفق الرئيس الأميركي جو بايدن، فإن التحالف يبرز من خلال الإقرار “بالأهمية القصوى لضمان السلام والاستقرار في منطقة المحيطين الهندي والهادي على المدى الطويل”.
ردّ الأوروبيون بغضب على هذه الخطوة، ليس من باب اختلافهم مع أهدافها الاستراتيجية، بل بسبب استبعادهم من التخطيط الاستراتيجي لدى القوى الثلاث لمستقبل المواجهة مع الصين، الأمر الذي يجعلهم خارج المنافسة على التأثير في المستقبل. وقد عبّر الرد الأوروبي عن تضامنٍ بين مختلف دول الاتحاد الأوروبي، بصورةٍ سوف تنعكس على تمتين أواصر التعاون بينهم، وقد تدفعهم إلى خطواتٍ طال انتظارها، ليس أقلها تفعيل البحث في إنشاء الجيش الأوروبي.
من ناحيتها، أدركت الصين سريعاً اتجاه التحالف الجديد، الأمر الذي انعكس في تصريح المتحدث باسم خارجيتها عقب الإعلان عن الشراكة، حين قال إنّ “التعاون بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا في مجال الغواصات النووية يزعزع السلام والاستقرار الإقليميين بشكل خطير، ويكثّف سباق التسلح، ويقوّض الجهود الدولية نحو عدم انتشار الأسلحة النووية”.
معاهدة “العيون الخمس”
بعد الإعلان عن “أوكوس”، لم تقتصر ردود الأفعال الغاضبة على القوى الأوروبية والصين، بل امتدت إلى حليف آخر هو نيوزيلندا. الأخيرة أعلنت على لسان رئيسة وزرائها جاسيندا أرديرن أنها لن تسمح للغواصات الأسترالية العاملة بالدفع النووي (التي ستتسلمها بموجب الاتفاق مع واشنطن ولندن) بدخول مياهها، وذلك من منطلق أنّ الحظر الساري على دخول أيّ قطعة بحرية تعمل بالدفع النووي مياه نيوزيلندا سيسري على الغواصات التي تعتزم حليفتها الأوثق أستراليا الحصول عليها بفعل الشراكة الجديدة.
ترتبط نيوزيلندا بالولايات المتحدة بشراكتين أخريين شديدتي الأهمية؛ إحداهما أشارت إليها أرديرن حين قللت من أهمية تأثير “أوكوس” المتعلقة، وفق رأيها، بالتكنولوجيا والمعدات الدفاعية، في الشراكة الأمنية الخماسية التي تجمع بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا وكندا ونيوزيلندا، والمسمّاة “العيون الخمس”، فالأخيرة تربط الدول الخمس بعلاقات أمنية واستخباراتية تشمل مراقبة وتأمين الفضاء الشاسع الذي تقع هذه القوى على أطرافه المتباعدة.
وأكدت أرديرن أنّ “هذا الترتيب (تقصد أوكوس) لا يغيّر بأيّ حال من الأحوال علاقاتنا الأمنية والاستخباراتية مع هذه الدول الثلاث، ولا مع كندا”، لكنّ رئيسة الوزراء شدّدت على أنّ بلادها لن تستثني الغواصات التي تعتزم أستراليا الحصول عليها من الحظر الساري منذ العام 1985 على دخول السفن العاملة بالطاقة النووية المياه النيوزيلندية.
وفرضت ويلينغتون هذا الحظر في أعقاب تجارب نووية أجرتها فرنسا في المحيط الهادئ. وبسبب هذا الحظر، لم ترسُ أيّ سفينة حربية أميركية في ميناء نيوزيلندي طوال أكثر من 30 عاماً. الاستثناء الوحيد حصل في أواخر العام 2016، حين زارت المدمّرة “يو إس إس سامبسون” ميناء ويلينغنون.
معاهدة “ANZUS”
أما المعاهدة الأخرى التي تضمّ نيوزيلندا إلى أستراليا والولايات المتحدة، فهي “أنزوس”، أو معاهدة الأمن التي وقعت في سان فرانسيسكو في الأول من أيلول/سبتمبر 1951. يومها، ارتبط تأسيس هذه الشراكة بظروف استسلام اليابان في الحرب العالمية الثانية.
وفي ذلك الوقت، أرادت كانبيرا ضمان أمنها الاستراتيجي تحت الغطاء الأميركي، فيما كانت الولايات المتحدة تخطّط للاستفادة من موقع كلٍّ من أستراليا ونيوزيلندا في منطقة غرب المحيط الهادي، وعلى تخوم جنوب شرق آسيا؛ فمن ناحيةٍ أولى، كانت الاتفاقية إطاراً جماعياً يحمي هذه الدول من تجدد الطموحات اليابانية في منطقة المحيط الهادي، ويتحضّر لمرحلة مقبلة سوف تتعاظم فيها قوة الصين، التي لم تكن يومها تمثل قوةً عالمية خطرة، باستثناء وجود نظامٍ شيوعيٍ فيها، في مرحلة الحرب الباردة التي شهدت صراعاً عقائدياً بين الغرب والاتحاد السوفياتي الشيوعي، لكن الخلافات السوفياتية-الصينية أبقت الصين خارج دائرة التركيز الغربي أثناء المواجهة الكبرى.
تحالف “كواد”
يضمّ التحالف الرباعي “كواد” كلّاً من الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والهند، وهو يكتسب اليوم أهميةً متزايدة في سياق التنافس المتصاعد في منطقة المحيطين الهندي والهادي (الهندو-باسيفيك). واليوم، وفي الوقت الذي تسعى الولايات المتحدة إلى إحياء “كواد”، فإنَّ الصين ترى في هذا التحالف خطراً أكثر تهديداً لها من اتفاقيتي “أنزوس” و”أوكوس”، فهوية الدول المشتركة فيه أكثر قدرةً من نيوزيلندا، وأكثر تحفزاً للمستقبل من بريطانيا، إذ تشكل الهند ثاني أكبر قوة بشرية في العالم بعد الصين، وإحدى أهم القوى الصاعدة في الاقتصاد العالمي، والقوة النووية التي تتربع على منطقة شبه الجزيرة الهندي في قلب الحزام الصيني، وفي منتصف محور الهلال الخارجي لنظرية ماكيندر، وفي عمق مساحة الصراع المستقبلي بين واشنطن وبكين، وعلى رأس القوى الطامحة إلى أداء دورٍ بارز في تشكّلات العالم الجديد والنظام العالمي الذي سيرسمه.
وبموازاة ذلك، تشكل اليابان القوة الحليفة للغرب الأكثر قرباً من الصين، والأكثر اختزاناً للعمق الثقافي التاريخي المنافس للحضارة الصينية، والأكثر ارتباطاً بالصين في تاريخ الحروب والأطماع، والقوة الاقتصادية التي بزغت في النصف الثاني من القرن العشرين، لتشكل نموذجاً للقوى الشرقية المتحالفة مع الغرب، مخالفاً للنموذج الصيني الذي يقف على النقيض الآخر، كقوةٍ شرقية قائمة بذاتها تسعى إلى المنافسة العالمية من خلال نموذجها الشرقي الأصيل.
ومع هاتين القوتين، تجتمع أستراليا كجزيرةٍ كبرى يخدمها موقعها المشرف على ساحة المواجهة المستقبلية، ومساحتها الكبيرة، وموقفها الجيوبوليتيكي البالغ الأهمية والخطورة في العقود المقبلة، تحت الحزام، وعلى سور الهلال الخارجي المحيط بجزيرة العالم، لكن على مقربة وإطلالة استراتيجية على صراعات بحر الصين الجنوبي، والخطوط البحرية التجارية والعسكرية، وكرأس جسر أميركي على الإمبراطورية الصينية.
وتحظى منطقة الهندو-باسيفيك بحد ذاتها بأهمية كبيرة في الاستراتيجيات العالمية؛ فهي تضم أكبر تكتّل اقتصادي في العالم، وهو منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ، المعروف اختصاراً بـ”APEC”، كما تشهد العديد من النزاعات الجغرافية، وخصوصاً بين الدول الآسيوية، بما فيها الصين واليابان ودول “آسيان” العشر، فضلاً عن الوجود العسكري الأميركي الكثيف ونقاط التَّماس مع الصين التي تعزِّز قدراتها ووجودها العسكري بشكل كبير في بحري شرق الصين وجنوبها.
لكن اللافت هنا أن قيام القوى الشرقية بتعزيز التكتلات الاقتصادية الجماعية الكبرى مع دول المنطقة ومع قوى أخرى حول العالم، يقابله نهج انسحابي أميركي بدأ مع الرئيس السابق دونالد ترامب، من خلال انسحاب واشنطن من الشراكة عبر المحيط الهادي (TPP)، في مقابل تقوية شراكاتها الفردية مع دول المنطقة أو من خلال التحالفات الثلاثية أو الرباعية، مثل “كواد” و”أوكوس”.
وتعود فكرة الحوار الأمني الرباعي المؤسس لـ”كواد” إلى العالم 2007، إذ بادر رئيس وزراء اليابان السابق شينزو آبي إلى طرح فكرة إيجاد شركاء من أجل إقامة توازن مع قوة الصين الصاعدة بسرعة، بما لا يقتصر على الاقتصاد والتجارة، إنما يشمل أيضاً الجانب العسكري. وقد أجرت الدول الأربع مناورات بحرية، كان آخرها في تشرين الثاني/نوفمبر 2020 في خليج البنغال وبحر العرب.
من ناحيتها، ترى الصين في هذا التحالف خطراً كبيراً يفوق خطورة التحالفات الأخرى التي تستهدفها أيضاً، إذ حذَّرت صحيفة “غلوبال تايمز” الرسمية الصينية الرئيس بايدن من أنَّ تجديد التحالف الرباعي سيكون “خطأً استراتيجيّاً فادحاً”، وقد يؤدي إلى “مواجهة استراتيجية خطرة” مع بكين، كما حمل تعليق أحد الخبراء في تقرير الصحيفة تحذيراً خاصّاً للهند، ناصحاً إياها بألا تربط “نفسها بشكل كامل بعربة الولايات المتحدة المناهضة للصين”.
الصحيفة التي تعكس موقف الحزب الشيوعي الصيني وصفت “كواد” بـ”العصابة الشريرة” التي تضم “أربعة زملاء في مستشفى مصابين بأربعة أمراض مختلفة” سوف “يصبحون وقوداً للمدافع” إن تجرأوا على مهاجمة الصين.
على هذا المستوى من التوتر تتشكَّل صورة منطقة الهندو-باسيفيك، فيما لا يبدو أنّ واشنطن تركت أيّ دور لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، فأية خيارات تضعها هذه المستجدات أمام أوروبا القديمة الساعية إلى الحفاظ على مكانتها في عالمٍ متغير ينجذب شرقاً؟ وما الخيارات الشرقية المقابلة لهذه التحالفات؟