تجار الأزمة: باعوا أخلاقهم أولًا!
موقع العهد الإخباري-
ليلى عماشا:
تتزايد الأسعار بشكل جنوني.. الغلاء الفاحش طاول كلّ أنواع السلع، حتى تلك التي لم تدخل في قوائم المبيعات في السوق السوداء، والتي بقيت متوفرة وبالمتناول، حتى الساعة. لم يعد بالإمكان تقدير سقف السعر لأي شيء، من الدولار إلى أكياس النايلون المخصصة للمهملات، ومن الضروريات إلى الكماليات، ومن المواد الغذائية إلى الطبية، ولم يعد من الممكن تقدير الرقم الذي سيُسجل أسفل فاتورة أي شراء، فالأسعار تتغير صعودًا بشكلٍ لا مجال لتوقعه، وغالبية قطاع التجارة قرّر لأسباب عديدة أن تكون الأزمة المالية والمعيشية مساحة استثمار تزيد من الأصفار في أرقام الأرباح، أو على الأقل تحفظ “جيب” التجار من أيّ خسارة ولو ضئيلة في هامش أرباحهم المتوقعة.
بلغة الشارع، وبالعربي الدارج، “الناس عم تاكل بعضها”، وبتوصيف أدق: التجار يأكلون من لحمنا، مع حفظ حق القلة القليلة منهم التي ما زالت تراعي الإنسانية والأخلاق والدين في عملية التسعير.
لكلّ تاجر قائمة من الحجج التي يبني عليها زيادة السعر، ويربطها بحلقة الزيادات التي لحقت كلّ شيء. وقد تجده محقًا إذا سمعته بمعزل عن دوره في تلك الحلقة، وتجده مذنبًا بقدر ما سائر عناصر الحلقة التجارية مذنبون. على سبيل المثال: يبرّر بائع “مياه الشرب” الارتفاع الهائل بسعرها بغلاء المواد البلاستيكية التي تُستخدم لصناعة العبوات، وبارتفاع فاتورة الكهرباء/الطاقة التي يحتاجها لتصنيع العبوات وتكرير المياه وتعبئتها.. وفاتورة الكهرباء ارتفعت حكمًا بسبب ارتفاع سعر المواد النفطية.. تقتنع أن الزيادة مبرّرة، لكنك ترى بشكل واضح أن ما يجعلها تبدو مبررة هو التضامن بين سائر خيوط الحبل التجاري، الذي وإن لم يكن شريكًا مباشرًا في تشديد الحصار الاقتصادي على البلد، فهو شريك في تفعيل آليات هذا الحصار، عبر إصراره على تحقيق الأرباح مستفيدًا من الحصار ومن حاجة الناس الملحة للمواد الأساسية.
من فضيحة الأدوية المخبأة في المخازن بانتطار رفع الدعم عنها ليتم بيعها بأسعار أعلى إلى جملة الفضائح المتعلقة بسوق المواد النفطية السوداء والمتمثلة بكميات “الغالونات” المعبأة والمجهزة للبيع بسعر مضاعف. ناهيك عن التسعيرات التي يضاعفها بعض أصحاب المحال ما إن يخيّل إليهم أن الشاري “بيقبض بالدولار” وغيرها من الإرتكابات الموثقة التي تنتهك كرامة الناس وقدرتهم على الصمود، كلها تفاصيل جعلت من فئة التجار، مع مراعاة عدم التعميم، فئة انضمت إلى معسكر المحاصِر وتحوّلت دون أن تدري إلى إحدى أدواته، مع العلم أنّه يتحكّم بمفاتيحها عبر الدولار والمشتقات النفطية. وإن لم يكن مطلوبًا من تلك الفئة أن تخسر موارد رزقها في سبيل حفظ الناس من شرّ العوز والدمع أمام صناديق المحاسبة، فبالطبع ليس مقبولًا منها أن تستثمر في وجع الناس لتزيد أرباحها أو تتجنب الخسارات البسيطة.. وإن لم تكن هذه الفئة مسؤولة بشكل مباشر عن سوء الأحوال الذي وصلنا إليه، إلّا أنّها على أرض الواقع باتت في حكم الشريك المعنوي لمنظومة إذلال الناس وتجويعهم، أقلّه بالمعيار الأخلاقي.
تحت الحصار، يحتاج المجتمع إلى تضافر كلّ طاقاته وتكافل كلّ فئاته لتخفيف حجم الضرر ورفع القدرة على الإحتمال إلى أقصى حدودها. لكن ما نعانيه اليوم هو تكافل فئات من المجتمع مع المحاصرِين وأدواتهم بحيث بات المشهد يشبه نكبة كشفت كمّ الفجور الكامن في كثير من النفوس.
للأزمات مهما اشتدت قسوتها ايجابيات عديدة، ومنها أنّ مواجهتها مع الحفاظ على الأخلاق والقيم الإنسانية والمصداقية في التديّن أمر يتطلّب شكلًا عاليًا من أشكال الصدق والإلتزام والتخلي عن الأنانية. في امتحانات كهذه لا يمكن لكلّ من يسقط أن يعود ويلتحق بالقافلة الناجية بعد عبورها النفق المعتم، فمن سقط يبقى في موقع سقوطه، يحصي أرباحه الفانية وربما يُدفن تحتها، وهذه الأزمة، مهما اشتدت زائلة، وحين تزول، سيسقط من الذاكرة الكثير من تفاصيل الوجع، لكن أحدًا لن ينسى وجوه من تاجروا بوجعه، وخذلوه يوم آثروا الربح الجشع والمتوحش فباعوا انسانيتهم وأخلاقهم سلعة على رفوف أرباب الحصار.