بين واشنطن والجامعة ينجح المشاغبون
صحيفة الخليج الإماراتية ـ
د. نسيم الخوري:
تتمتّع جامعات أمريكا بقدرات هائلة على جذب طلاب العالم، والكثير من أولادنا في الشرق الأوسط يعشقونها ويطمحون إليها، بينما نجد، في المقابل، أهليهم يطربهم بأن يتعلّم أولادهم فيها، لكنهم يتنافسون كما الكثير من المسؤولين في الدول العربيّة والأحزاب الإسلامية والليبرالية بأصنافها وتسمياتها المتنوّعة، على تبادل الشتائم والاتهامات وإلصاق صفة التآمر على كلّ من هو على علاقة بأمريكا فرداً أكان أم دولة أم تجمّعاً سياسياً أو جمعية مهما كان شكلها أونظامها . لن أبحث في الأسباب والنتائج لهذه الظاهرة المتفاقمة التي تعود إلى إمكان ربطها، كما العادة، بنكبة ال 1948 وتداعياتها، لكنّني سأحاول، وبكثير من الموضوعية ألا ألقي باللوم على مرجعيات هذه الدول وزعمائها ومدى عجز أنظمتها ومسؤوليها من التوفيق بين رغباتهم ونواياهم الحقيقية من ناحية، وبين الوقائع والإمكانات الحقيقية المتاحة لهم في مناهضة أمريكا والقوى العظمى الأخرى . ويعدّ مشهد سلطات القوة الأمريكية والغربية العظمى المتناغمة، على الرغم من ديمقراطياتها وحرياتها وجاذبياتها، جاذباً في طقوسها السلطوية البسيطة وعاكساً التقاليد الإمبراطورية التي لم تتمكّن البشرية من الخروج منه .
فقد نرى أوّلاً، في عصر تحطيم التماثيل العربية أوصورها السلطوية أوعرض الجثامين المدمّاة فيها، يقظة المكبوت الاستعماري، ونجد بلداً مثل فرنسا، وكأنّه لم يخرج من ظلال فرنسوا الأوّل عندما رفعت تماثيله وصوره بثيابه الملكية ونياشينه التي لا تعد في إظهار سلطان دولته الأبدية، إذ كانوا يضعون “عبداً” لطرد الذباب بمروحةٍ عن وجه التمثال . وحتّى بعد الموت، عرضوا، مثلاً، جثمان الملك مثل شارل السادس وهنري الرابع أربعين يوماً أمام الجمهور . تلك تواريخ وآثار تعيش في المتاحف كما تنبش في المحاضرات الجامعية وتستيقظ في الأذهان والسلوك الدوليين . وكلّها حلقات متّصلة تعود إلى نبع السلطات الدينية، وحتّى لدى الشعوب التي تحرق جثث موتاها، فإنّ الدخَان المنبعث يولّد صوراً بأن المحروق قد لاقى ربّه عبر انسحاب الغيوم نحو السماء حيث ستفتح له أبواب الأبدية .
ما يقلق رأس أوباما ونصّه هو “نتنياهو” المشاغب و”إسرائيل” لكنّه يحبها، تماماً كما “نضال” أي الطالبة الشاطرة المشاغبة أمامي التي تشغل بالي دوماً بعشقها الفوضى ونسف النظام ولها عطف خاص . لماذا؟ لأنّ قمّة اللذة في الحياة الأكاديمية اليوم هي أن تربت على كتف طالب يخرج من المواقع الإلكترونية بمعلومة . ما عاد طلابنا متلقّين في صفوفهم، بل فاعلين . وصارت لوحات الشرف وتوزيع الجوائز والاحتفالات الجامعية والموسيقا الكلاسيكية والأزياء السلطوية الأكاديمية في نهايات الاحتفالات مسائل تثير سخرية الطالبات والطلاب المتخرّجين من طراز “نضال” . هؤلاء إمّا أنهم لا يحضرون حفلات التخرّج، وإما أنّهم يحضرونها وهم في مؤخّرة صالونات التخرّج في الكرة الأرضية يغمزون من قناة أقرانهم الذين نالوا شهاداتٍ عالية، إذ لا قيمة لهذه إلا لدى عائلاتهم، وهذه مظاهر أمريكية تجتاح العالم .
أغرقتني تلك الطالبة المشاغبة، كما أغرقت زميلاتها وزملاءها، منذ أكثر من عامين، بمعلومات هائلة وأوراق عن اليهودي الأمريكي “غارد كوهين” الذي كان مثلها طالباً مشاغباً حسب سيرته . عاش في عدد من البلدان العربيّة ويجيد العربيّة والفارسيّة، وأصبح مديراً لل Google Ideas، وموظفاً في الخارجيّة الأمريكيّة يعرف بمهندس “الديمقراطيّة الرقميّة” و”الثورات المُخمليّة” . يُنسب إليه تغذيّة “الثورات” في الشرق الأوسط وإنجاحها . ويمتلك ومجموعاته معرفة كبيرة في واقع الدول العربيّة ويُحاور في أشهرِ المنتديات وفي مواقعِ “غوغل” و”فيس بوك” و”تويتر” منتحلاً شخصية المواطن في البلد الذي يكتب عنه . لديه قوة ضغط هائلة عندما يدخل ويمارس قوة ضغط لمصلحة الأطراف التي يريد لها أن تنمو، بل هو يستطيع أن يغير في أي صفحة من صفحات الأفراد، فيخفي حقائق وصوراً، ويركز على ما يريد التركيز عليه . ومن راقب المجموعات الاجتماعيّة التي دعت إلى “الثورات”، لمس زيادات سرطانية غريبة في أعداد المنضمين إليه قبيل انطلاق “الثورات” بأيام قليلة وفي أيامها الأولى . وهذا أمر لا يمكن أن يحصل بشكل طبيعي، إلا إذا كان هناك من يملك مفاتيح التحكم بهذه المجموعات . ويستطيع توليد هذا الكم الهائل من الأعضاء بطرق أتوماتيكية لتنتشر انتشاراً سرطانياً يخنق الصوت الآخر الذي هو بطبيعة الحال غير مُستَفزّ وبالتالي، لن يكون، هذا الصوت، مُهتماً في إنتاج مجموعة شبيهة تستطيع أن تحصد أعداداً مشابهة لأعداد المجموعة الأولى المعارضة التي ستنتقل إلى النمو الطبيعي بعد أن أصبحت العملية تراكميّة نتيجة طريقة عمل برمجيات الشبكات الاجتماعية المختلفة التي تعتمد بشكل رئيس على التشبيك غير المحدود .
إن إدارة أوباما الخارجية، كانت قد تبنّت علناً مقاربة أكثر عمليّة للعلاقات الخارجيّة، مُتخليةً عن السياسات المُحركة أيديولوجيّاً كما كانت إدارة بوش، وبالأخص تلك التي ترتكز على استخدام القوة لإنجاز تغيير الأنظمة . ودافعت عن استخدام ما وصفته ب “القوة الذكيّة” . وتعرّفت إلى أعمال مجموعة “إيسوغ” التي يقودها غارد كوهين لاستخدام شبكة الإنترنت كأداة لتعبئة المعارضة في الدول المختلفة . وقد ألقى كوهين “ظافراً”، محاضرة في أكتوبر/ تشرين الأول 2007 أمام ال “وينيب”، أي “معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى”، بعنوان: “النساء والشباب والتغيير في الشرق الأوسط”، محوره ما أسماه “الديمقراطية الرقميّة”، وهو مفهوم يقوم على أنّ الشباب في الشرق الأوسط “جاهزون بشكل خاص للتأثير الخارجي” عبر “ممرّات التكنولوجيا” كالفضائيات التلفزيونية والهواتف المحمولة وشبكة الإنترنت . وكذلك ألقى محاضرة أخرى في ال 2010 بعنوان “كيف تغير التكنولوجيا التاريخ”، تحدث فيها عن كيفية الاستفادة من مواقع الشبكات الاجتماعية لتكوين مجموعات عمل وآراء معارضة للسلطات وأسهب في الأمثلة المختلفة عن عدة تجارب قام بها هو شخصيّاً لتغيير الرأي العام .
هكذا إذاً، يقع مسؤولو العرب والعالم اليوم في لعبة الطلاب المشاغبين والدول الزئبقية مثل “إسرائيل” . وهكذا ولد هذا المقال/النص عندما ألزمني طلابي في الدراسات العليا، وخصوصاً نضال، بأن نتابع معاً في قاعة المحاضرات الجامعية حفل “تنصيب” باراك حسين أوباما لولاية ثانية (21/1/2013)، فنستعيض به عن محاضرات في حلقة “السلطات والثورات العربية” الدراسيّة .
لكن مهلاً . . لننتظر معهم خطاب أوباما المنتظر عن “حال الاتّحاد” أمام الكونغرس في 12 من فبراير/ شباط المقبل، فنقارب موقفه الجديد من الدولة “الذكيّة” المشاغبة .