بوتين ينتقل إلى الهجوم الإستراتيجي الوقائي
صحيفة الوفاق الإيرانية-
ناصر قنديل:
في مطلع القرن الواحد والعشرين تقدّم الأميركيون في الجوار الروسي بما هو أبعد من مجرد ضمّ دول أوروبا الشرقية إلى الاتحاد الأوروبي، فكان التزامن بين وصول فلاديمير بوتين الى الرئاسة الروسية وبدء الهجوم الأميركي الأوروبي بالثورات الملوّنة وبالقضم الأمني والعسكري لدول الجوار الروسي، من أوكرانيا الى جورجيا ولتوانيا وصولاً الى دول البلطيق.
– والتلويح بضمّ دول هذا الجوار الى حلف الناتو الذي تقوم عقيدته العسكرية على اعتبار روسيا العدو الأول، وفي كلّ هذه المرحلة الممتدة حتى عام 2015 سنة التموضع الروسي في سورية، كان موقف موسكو السعي لاحتواء الهجوم الأميركي والغربي، والتركيز على بناء القدرات الاقتصادية والعسكرية لروسيا.
– شكل العام 2015 محطة فاصلة في كيفية تعامل روسيا مع الهجوم الأميركي والغربي المستمرّ منذ سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي، فكان قرار الرئيس بوتين بالدخول طرفاً مباشراً في مواجهة الحرب المفتوحة على سورية بقيادة أميركية معلنة، تعبيراً عن قرارات متعددة الأبعاد، أولها القناعة بخطورة المدى الذي بلغه التغوّل الأميركي وخطورة الإنكفاء أمامه، وقد كشف تحالفه المعلن مع الإرهاب من جهة، وحجم تحدّيه للأمن القومي الروسي من جهة موازية، وفي المقابل بعدما ظهر في سورية أنّ مفهوم الدولة الوطنية كمشروع مناهض للمشروع الأميركي هو استثمار قادر على الإنجاز، وأنّ منطقة غرب آسيا التي اختارها الأميركي لإحكام الطوق على روسيا وإيران عبر اللعب على وتر الإسلام السياسي الذي مثلته تركيا بمشروع العثمانية الجديدة، تستطيع ان تكون مقبرة هذا المشروع بتشعّباته التركية والمتطرفة ومن خلفهما الأميركي خصوصاً والغربي عموماً.
– عندما تمّ تحريك أوكرانيا بوجه روسيا في قلب الحرب السورية كانت رؤية موسكو واضحة، وقرارها حازماً، بأن لا تراجع مهما كان الثمن، والروس قد قرأوا جيداً ما كتبه زبينغيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأميركي السابق في ثمانينات القرن الماضي، وما قاله عن أوكرانيا نقطة الضعف الروسية في التاريخ والجغرافيا، ولذلك تشبّث الرئيس بوتين بقراره في المضي قدماً نحو التموضع في سورية وصولاً للحسم الذي بدأته معركة حلب الفاصلة، وذهب نحو قرار ضمّ شبه جزيرة القرم، وهو القرار الذي تحوّل الى أمر واقع رغم كلّ ما قيل يومها عن أنه لن يمرّ، ورغم كلّ التهديدات الغربية بالعواقب الوخيمة، وقد ثبت لموسكو انّ الكلام الغربي عن التهديدات يبقى حبراً على ورق وبعض العقوبات، ولم يحل كلّ ذلك دون السير قدماً ولو بتقطع بمشروع أنابيب السيل الشمالي لنقل الغاز الروسي الى ألمانيا.
– هذه المرة عندما أثير ملف أوكرانيا بلغة التهديد لروسيا مجدداً، لم ترتبك موسكو في فهم الرسالة، فالمطروح هو تهديد موسكو بالخروج عن اتفاقات مينسك ودعم حكومة أوكرانيا لضمّ مناطق دونباس في شرق أوكرانيا بالقوة، ولم تتردّد موسكو، فلم تنف استعدادها لإجتياح أوكرانيا إذا تمّت إطاحة اتفاقات مينسك، ووضعت معادلة جديدة على الطاولة، لا ضمانات بعدم اجتياح أوكرانيا، بل مطالبة بضمانات لعدم ضمّ الغرب لأوكرانيا وسواها من دول الجوار الروسي الى حلف الناتو، وشيئاً فشيئاً لم تعد القضية أوكرانيا، بل صارت الضمانات الروسية الموثقة المطلوبة من الغرب، ودار الحوار بين الرئيسين الأميركي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين حول هذا الأمر، تمهيداً لحوارات قيد الانطلاق تحت هذا العنوان، تقول موسكو سلفاً إنها غير مستعدة لتقديم اي تنازل خلالها عن ثوابت تمثل أمنها القومي.
– جاءت أحداث كازاخستان لتكشف بالمقارنة الزمنية بين الزمن الذي احتاجته القيادة الروسية لاتخاذ قرار التحرك الميداني نحو سورية، والزمن الموازي الذي احتاجته للتحرك الميداني نحو كازاخستان، من سنوات وشهور الى أيام وساعات، تحوّلاً كبيراً في توجهات القيادة الروسية لجهة الإنتقال من الدفاع الاستراتيجي الى الهجوم الاستراتيجي الوقائي، وهو غير الهجوم الاستراتيجي في المطلق، لكنه أحد أشكاله وبداياته.