بوتين.. ومنظومة الطعن في الظهر
موقع العهد الإخباري ـ
محمود ريا:
خلال يومين فقط، تحدث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرتين عن الطعن في الظهر، ولكن بشكل متناقض: في طهران قال “إن روسيا لا تطعن حلفاءها في الظهر”، وبعد إسقاط تركيا للطائرة الروسية في الأجواء السورية، ووقوف الولايات المتحدة إلى جانب أنقرة، قال “إننا تلقينا طعنة في الظهر”، فهل هذه صدفة؟
لا يمكن أن تمر هذه الملاحظة على المراقب مرور الكرام، بل لا بدّ من التوقف عندها وإمعان النظر فيها، لأنها تحمل في طيّاتها الكثير من المدلولات، وتشي بالكثير من المكنون في الصدور، والمخبأ خلف صفحات الوجوه.
بوتين تعهد في طهران أن لا يطعن إيران في الظهر، وذلك في ظل عصر سياسي يقوم على الخيانة وعلى تبدّل المصالح وعلى الإخلال بالاتفاقات بحثاً عن المزيد من المكاسب.
فلادمير بوتين
وبوتين تعهد أيضاً أن لا يسكت عن الطعنة في الظهر التي تعرض لها في قضية إسقاط طائرته في سماء سوريا من قبل القوى التي كان يُفترض أن تتشارك معه في محاربة الإرهاب، فيما هي تدّفعه غالياً ثمن إحباطه لمخططات الإرهابيين ومن يقف وراءهم.
وإصرار بوتين على نطق العبارتين في يومين ناجم عن إحساس عميق بالخيانة، تعرضت له دولته من بعض الذين يُفترض بهم أن يكونوا أصدقاء، كما هو ناجم عن إحساس أعمق بالجريمة التي ارتُكبت بحق بلاده ـ الكبرى أولاً وهي الاتحاد السوفياتي، والصغرى ثانياً وهي روسيا ـ حيث لم ترتدع القوى العالمية عن تمزيقها وتحطيم قوتها والعمل على إذلالها والمسّ بسيادتها على مدى عقد كامل.
فمنذ سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1990، بالغت الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة في معاملة روسيا كدولة قاصر، ولم تترك فرصة إلا واستغلتها من أجل التحكم بها وبمستقبلها، خوفاً من نهوضها من جديد.
وقد قُيّض لهذا البلد أن يأتي على رأسه هذا الرجل القوي ـ فلاديمير بوتين ـ كي يحرف روسيا عن مسار الانهيارات الذي كانت تسلكه، وكي يعيدها إلى المسار الطبيعي لأمة كبرى ودولة عظمى لها تاريخها كما لها مستقبلها الذي تريد أن ترسمه بنفسها.
وفي مسيرة الصعود التي قاد بوتين بلاده إليها عانى الكثير من العقبات التي وضعتها الدول الكبرى، وتخطى العديد من الأفخاخ التي كانت تريد أن تمنع روسيا من التقدم، وتصدى لمؤامرات منها ما يخطر بالبال ومنها ما لا يمكن أن يخطر أبداً.
وما واجهته روسيا في هذا المسار شمل ضغوطات من الداخل والخارج: محاولات تفتيت وتقسيم، دعم حركات التمرد، حصار شامل، خنق الاقتصاد، إغراء الحلفاء والأصدقاء بالتخلي عن صداقتهم لموسكو، وأي أسلوب آخر يمكن أن يؤدي إلى إضعاف هذا البد وشلّه ومنعه من التقدم.
وإذا كانت هذه المؤامرات قد نجحت في مرحلة انعدام الوزن التي عاشتها روسيا في السنوات الأولى بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، فإن صعود بوتين المفاجئ إلى سدّة الحكم كان سبباً في فشل الكثير من المخططات، ما جعل الضغوط أقوى وأكبر، والهجمات أعنف وأقسى، والأخطار أمرّ وأدهى.
واليوم، ومع هذه المعاناة الكبرى التي تمر فيها الأمة الروسية، والامتحان الذي تتعرض له، يشعر بوتين بكل هذه المؤامرات والمخططات، ويفهم خلفياتها ويدرك أبعادها، لذلك تراه يحدد موقفه بوضوح: يرسم خريطة تحالفاته دون أية أوهام، يعرف الصديق ويتعهد أن لا يطعنه في الظهر، ويشخّص العدو ويتوقع منه كل شيء، حتى الطعن في الظهر.
قد لا تكون خسارة بوتين لطائرته في أجواء سوريا أول خسارة أو أفدح خسارة في تاريخ هذا البلد خلال العقود الماضية، ولكنها ستكون محطة يجهر فيها الرئيس الروسي بموقفه بكل وضوح: الأصدقاء أصدقاء والأعداء أعداء، وسيتم التعامل مع كل نوع منهم كما يستحق التعامل.
والمواجهة وجهاً لوجه هذه المرة.. فالطعن في الصدر وليس في الظهر.. وليصمد الأقوى.