بوتين وروسيا والغرب.. الإنفصام الحضاري
موقع قناة الميادين-
سلام العبيدي:
لعلَّ هذه المعركةَ هي الأكثرُ أهميةً وطموحاً، وهي الاخيرةُ في حياة بوتين، لذا يخاطرُ الرجلُ بكلِّ شيء.
قَبْلَ أن يصبحَ الشخصَ الأكثرَ ازدراءً في العالم الغربي، كان لدى فلاديمير بوتين خيارُ التراجعِ وخيانة المصالحِ القوميةِ الروسية بالطريقة التي يفعلها جميعُ السياسيين المدللينَ لدى المؤسسة السياسية الأميركية. كان يمكنُ له أن يصبحَ غورباتشوفاً أو يلتسيناً جديداً ويكونَ محبوباً في الغرب ويُمضي عطلات نهاية الأسبوع في الندوات والمؤتمرات والمنتجعات، محاطاً بالجمهور الغربي المنافق. لكنه اختارَ سبيلاً آخر، ووضعَ كلَّ شيءٍ على المحك، مخاطراً بخسائرَ لا يمكن تعويضُها. ولعلَّ هذه المعركةَ هي الأكثرُ أهميةً وطموحاً، وهي الاخيرةُ في حياة بوتين، لذا يخاطرُ الرجلُ بكلِّ شيء.
إنها ليست مسألةَ الصراعِ من أجلِ البقاءِ والاحتفاظِ بالسلطةِ والحفاظِ على رأسِ المال المزعوم. ولو كان الامرُ كذلك لضمنتِ الولاياتُ المتحدةُ خروجاً “آمناً” له عن السلطة والحفاظَ على رأس المال، كما تفعل لأي شخصٍ آخر من أتباعها.
وبالنظر إلى حجم ضغط العقوبات، عندما تم حظرُ كلِّ شيء وفي كل مكان، يصبحُ واضحاً أن خيارَ الحربِ لا يتعلق بالحفاظِ على ما اكتسبته نخبةُ الكرملين والطبقةُ الأوليغارشية المرتبطةُ بها. إنه شيء مغاير تماماً وأكثرُ تعقيداً.
ليس هناك أدنى شكٍّ في أنه مع ارتفاع درجةِ حرارةِ الوضعِ الجيوسياسي، عندما ولجت الولاياتُ المتحدةُ وأتباعُها دوامةَ الهستيريا، إلى حدٍّ أضر بمصالحِهم وقوّضَ أمنَ الطاقةِ والاستقرارَ العسكري، فإن واشنطنَ لن تقبلَ من موسكو سوى الاستسلامِ الكاملِ وغيرِ المشروط.
الجلوسُ إلى طاولةِ المفاوضاتِ في الفهمِ الأوروأطلسي هو وقفُ الهجومِ على أوكرانيا، وسحبُ القواتِ، والاستسلامُ أولاً في دونباس، ثم في شبهِ جزيرةِ القرم، وفي نهاية المطافِ رحيلُ بوتين عن السلطة والاستسلامُ في كل روسيا وتسليمُ البلدِ إلى أذنابِ السياسةِ الأميركية.
لدى حسابهِ مخاطرَ العمليةِ العسكريةِ، فهمَ بوتين أن عبورَ الخط الأحمر بين السلام والحرب لا يشكل إلا مساراً واحداً من دون مناورات للتراجع والانكفاء. لا خطوةَ واحدة إلى الوراءَ. لا عودةَ إلى اتفاقياتِ مينسك التي أنقذت أوكرانيا في عام 2015، ووضعتها تحت السيطرة الغربية التامة، وأوقفت الزخم الهجومي في دونباس مِن أجل إعطاء أوكرانيا فترة راحة وإعادة تجميع القوة العسكرية وبناء توازنات سياسية جديدة، في مقابل وعودٍ هلاميةٍ بالاعترافِ بروسيةِ القرم وإعطاءِ حكمٍ ذاتيٍّ للروس في دونيتسك ولوغانسك.
إن ظهور جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين كان نتيجة منطقية لانضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا في آذار/مارس 2014، وكحاجة للتغطية على هذا الانضمام. ويمكن الافتراض أنه إن لم تظهر قضية القرم، فربما لم يكن هناك صراع أساساً في شرقي أوكرانيا. لكن، بعد إقامة جمهوريتي دونباس، وصل الكرملين إلى طريق مسدود، لأن إعادة اندماجهما في أوكرانيا كانت مستحيلة بأي شكل من الأشكال وتحت أي ظرف من الظروف. وهذا من شأنه أن يقوض بشكل كبير، وقبل كل شيء، مواقف الكرملين الداخلية، بعد أن تعالت أصوات في روسيا تحذر مِن خيانة السكان الروس في دونباس. لقد كانت اتفاقيات مينسك مِن البداية فاشلة وغير قابلة للتطبيق. ومن البداية، لا أحد كان على استعداد للوفاء بها. كان الكرملين، الذي دعم الصراع المجمد لمدة 8 سنوات، متوهماً بإمكان التفاوض مع أوكرانيا ما بعد الانقلاب، والتي ضربت بعرض الحائط كل التفاهمات والتعهدات بتحريض وتشجيع أميركيين.
لم ينجح شيء آنذاك، ولم يكن الغرب مستعداً لأن يأخذ في الاعتبار مصالح روسيا ومواقفها، لأنه لم يرَ في روسيا أصلاً شريكاً متساوياً ومتكافئاً على الساحة الجيوسياسية. وطوال هذه السنوات، كان الغرب يبذل كل ما في وسعه لدق إسفين بين روسيا وأوكرانيا، ودعم السياسات والاتجاهات المعادية لروسيا ورعايتها عبر كامل الطيف السياسي الأوكراني وعلى جميع المستويات: اللغة والثقافة والتعليم وإعادة كتابة التاريخ وتدمير كل ما يمكن أن يرتبط بروسيا. جنباً إلى جنب مع التفكيك، سعى الغرب بنشاط لعسكرة أوكرانيا وتشجيع النزعة النازية لبلورة عناصر متوحشة وراديكالية.
ومع ذلك ومن الوهلة الأولى، لا تبدو مقنعة وكافية الأهداف المعلنة للعملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، والتي أوجزت باجتثاث النازية، وإيقاف القصف من جميع أنواع الأسلحة على الحقول والخنادق في دونباس، ونزع سلاح أوكرانيا ومنعها من تطوير أسلحة دمار شامل، وخصوصاً أن الثمن هو فقدان 300 مليار دولار مِن الأصول في الخارج وتعريض أكثر من 600 مليار دولار من عائدات التصدير السنوية للخطر، وإيقاف التعاون التكنولوجي والصناعي مع الغرب مع مخاطر الانهيار التام وعزلة الاقتصاد الروسي. إذا هناك شيء آخر، يستحق كل هذه التضحيات.
الحق يقال إن الغرب تجاهل بانتظام ولم يأخذ في الاعتبار الموقف الروسي، بأي شكل من الأشكال، فيما يتعلق بزحف حلف شمال الأطلسي شرقاً. لكن احتمال انضمام أوكرانيا إلى الناتو، وعلاوة على ذلك، تطوير أسلحة نووية في اوكرانيا، يبدوان مشكوكاً فيهما. لا تحتاج الولايات المتحدة إلى مواجهة مباشرة مع روسيا، كما أن انضمام أوكرانيا إلى الناتو ينطوي على مخاطر وإمكان الاحتكاك العسكري المباشر، إما في دونباس، وإمّا حتى في شبه جزيرة القرم. من وجهة نظر تقييم الاحتمالات، ليست مقنعة الفرضية القائلة إن الولايات المتحدة كانت ستقدم على الاستيلاء بالقوة على شبه جزيرة القرم. نعم، يمكن افتراض ذلك بالنسبة إلى دونباس، ولكن ليس بالنسبة إلى القرم.
كان من الممكن أن ينتظر بوتين العدوان العسكري الأوكراني ضد دونباس من أجل الحصول على دوافع وأسباب وحجج كافية للمساعدة على تحييد مثل هذا التهديد. على اقل تقدير، تمت رؤية مثل هذا الاحتمال في 21 كانون الثاني/يناير في اجتماع مجلس الأمن القومي الروسي. لكن بوتين بدأ يتصرف بصورة استباقية وعلى جميع الجبهات. وعلى الأقل، تُظهر ردة الفعل الصادمة والمفرطة للأسواق أن أحداً لم يتوقع عملية عسكرية على جميع الجبهات، حيث ستكون روسيا هي البادئ.
وعودٌ إلى بدء، فإن اجتياح أوكرانيا ينطوي على فقدان رأس المال والعزلة الدولية ومخاطر فقدان استقرار السلطة على مسار الانهيار الاقتصادي، أما موقف أوكرانيا تجاه روسيا فسوف يتدهور أكثر. لكن العملية العسكرية، بالرغم من الهستيريا الإعلامية غير المسبوقة، تجري وفق المخطط، مع وجود علامات واضحة على الاستعداد الجيد لها. لذلك، يمكن الاستنتاج أن الإعداد لها جرى مقدَّماً ولفترة طويلة من الزمن وبدقة. وبعبارة أخرى، تم حساب جميع المخاطر.
من هنا، فإن الأهداف أكثر شمولية. والواضح أن الصين علمت مسبقاً بأن العملية العسكرية ستكون واسعة النطاق، على أقل تقدير قبل أيام قليلة من بدء الألعاب الأولمبية، وربما قبل العملية بوقت طويل، إلى جانب بيلاروسيا، بطبيعة الحال، بصفتها الحليف الأول لروسيا. إن ردة فعل الصين في الساعات والأيام الأولى بعد بدء العملية العسكرية تشهد على “التسليم” بالأمر الواقع والدعم الناعم لروسيا. لقد صُدم العالم كله، لكن ليس الصين.
وعلى ما يبدو، فإن كل تلك العمليات المرافقة لانكفاء الغرب، بدأت تبرز أكثر فأكثر مع ولوج الانتخابات الأميركية الأخيرة مرحلة الحسم، بعد بدء مسرحية فرز الأصوات. في التاريخ الحديث بأكمله، لم تكن الدول الغربية ضعيفة أبداً كما هي الآن، ولم يتبق سوى بضعة أشهر قبل أن تبدأ العمليات المدمرة في أسواق الديون، التي ستبتلع كل شيء كالثقب الأسود، وخصوصاً بعد قرار بوتين التعامل بالروبل الروسي فيما يخص مبيعات موارد الطاقة.
إن هستيريا الولايات المتحدة على مدى الأشهر الستة الماضية هي نتيجة لمشاكل داخلية غير قابلة للحل، وهي حالة المأزق التام، بعد أن فاق حجم الدين الداخلي 22 تريليون دولار. إن تنفيذ الأجندة الأوكرانية هو ترجمة لمشاكل الولايات المتحدة. والمنطق المعياري نفسه لم يتغير: إذا شب حريق في منزلك، فأَضْرِمِ النار في بيت جارك، لتحويل الانتباه إلى منطقة أخرى.
لقد أدت الأحداث الأوكرانية إلى حقيقة مفادها أن أسعار الفائدة في سوق الديون الأميركية عادت إلى طبيعتها من 2٪ إلى 1.75٪، وهي فائدة مريحة نسبياً. وانخفض احتمال زيادة سعر الفائدة بمقدار 50 نقطة أساسية. وبذلك تحول الولايات المتحدة الاهتمام مرة أخرى، لكنها في الوقت نفسه تفتقد نقطة مهمة.
على ما يبدو، فإن الحرب في أوكرانيا هي بمثابة الزناد والمحفز النهائي لعمليات التضخم العالمية، وبعد هذه العمليات سيبدأ تشظي الديون في البلدان المتقدمة، مع كل ما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة. الحرب، بطبيعة الحال، ليست الدافع وليست السبب للمشاكل المستقبلية في البلدان المتقدمة، لكنها المحفز ليس إلا. وفي المحصلة نرى نمواً قياسياً في أسعار المواد الخام، ومشاكل في الخدمات اللوجستية، وتعزيز توقعات التضخم، وتقويض الثقة بالعملات الورقية الرئيسة. لكن الشيء الأكثر أهمية هنا هو أن المصارف المركزية في البلدان المتقدمة سوف تستخدم الصراع الجيوسياسي ذريعةً لتأخير إجراءات التشدد في سياسة النقد والإقراض. لقد فاتهم بالفعل فتح “النافذة الآمنة”، والآن تزداد تكلفة الخطأ أضعافاً.
لقد سئمت الصين من سياسة “مروحة العقوبات” المتهورة للولايات المتحدة، ومن مبدأ “القصف السجادي” لكل شيء يحيط بها. الصين هي أول من يريد وينتظر أن تُصفع الولايات المتحدة على خدها. ويجب الاعتراف بأن روسيا تعمل بالتعاون مع الصين تحت غطاء دبلوماسي واقتصادي ومالي من أجل إحداث انفصام حضاري، ودفن الحضارة الغربية الحديثة من خلال زعزعة استقرار أسواق الطاقة والخدمات اللوجستية والحركة الجوية، وتفكيك دوامة التضخم. ستكون الأزمة الجديدة أقوى بما لا يقاس من “الكساد العظيم” مع انخفاض هائل في الأسواق الغربية وانهيار الاقتصاد لسنوات.
إن السهولةَ التي يقبلُ فيها الكرملين الانفصالَ عن الغرب في كل شيء – في التمويلِ والتجارةِ والتكنولوجيا وتأشيراتِ السفرِ والاتصالات الثقافية والإعلامية – كل هذا يدلُّ على أن الكرملين لن يعودَ إلى عالمِ الأمسِ.
وإذا كان الأمرُ كذلك، وهو كذلك، فإن كثيرين في العالم يؤيدون بوتين، الذي وضعَ كلَّ شيء على المحك ويخاطر بكل شيء، لأن الحديثَ اليومَ يجري عن تفكيكِ الحضارةِ الغربية وبناءِ صرحٍ جديدٍ للنظامِ العالمي. ولأجل هذا الهدفِ يمكنُ تحملُ العقوبات وحتى الحصارِ الشامل.