بعد القرم: التركيز الاستخباراتي لأميركا وحلفائها الأوروبيين سيتجه إلى روسيا
لفتت وكالة “رويترز” الى أن الغرب بات معنياً باعادة تركيز جهوده الاستخباراتية على موسكو بعد أزمة أوكرانيا الحالية. وفي تقرير أعده أحد صحافييها بيتر أبس من لندن استنتج أن الدول الغربية تجد نفسها الآن أمام واقع صعب وهي على أعتاب عصر جديد ربما ينطوي على مواجهة مع موسكو. والمشكلة انه بعد مرور ربع قرن على سقوط حائط برلين، تراجعت بشدة خبرات أجهزة المخابرات والقوات المسلحة الغربية المتعلقة بروسيا. الان ومع تزايد القلق إزاء أنشطة التجسس الروسية المحتملة بما في ذلك الهجمات الالكترونية التي تتزايد تطوراً وبرامج التجسس الالكتروني، يكشف تقرير “رويترز” عن تجدد قدر من الاهتمام بروسيا في السنوات الأخيرة وتحديداً في مجال مكافحة التجسس. كما أن المفاجأة الاخيرة التي عصفت بواشنطن وحلفائها بعيد ضم الرئيس فلاديمير بوتين شبه جزيرة القرم الى بلاده أظهرت الحاجة الماسة للتركيز من جديد على موسكو.
وبحسب مسؤولين حاليين وسابقين، فإنه بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، بات التركيز منصباً على ما أسمته الولايات المتحدة “التشدد الإسلامي” و”الشرق الأوسط” ثم على صعود نجم الصين، بحيث لم تعد شؤون الاتحاد السوفياتي السابق من التخصصات التي تعزز مستقبل صاحبها المهني.
وبعكس ما كانت عليه الحال إبان الحرب الباردة، حينما كان الوصول لمعظم الأراضي الروسية بعيد المنال بالنسبة لأبناء الغرب، يقول متخصصون إقليميون إن الخبرة متوافرة اليوم بين الأكاديميين ورجال الأعمال، لكنها خبرة غير مستغلة.
ونقلت “رويترز” عن ضابطة المخابرات الأمريكية المتخصصة في شؤون روسيا خلال الفترة من 2006 إلى 2009 فيونا هيل قولها “هناك عدد جيد من الخبراء المتخصصين في روسيا، أناس عاشوا هناك ولديهم خبرة عالية، لكن لا يوجد طلب عليهم من جانب الحكومة”.
وأوضحت هيل التي تعمل الآن مديرة لمركز “الولايات المتحدة وأوروبا” في معهد “بروكينجز” أن “البنتاغون تحديداً فقد الكثير من خبرائه المتخصصين في شؤون روسيا وكذلك فقد البيت الأبيض”. واستنادا الى مسؤولين حاليين وسابقين فإن المزيد من هؤلاء الخبراء يجدون عملا الآن على الأرجح في وزارات الدفاع الغربية وأجهزة المخابرات، لكن التركيز على روسيا في ظل التقليص الحالي في الميزانيات سيعني على الأرجح أخذ موارد من مخصصات أخرى. وبحسب ضابط مخابرات غربي سابق طلب عدم نشر اسمه “فان المشكلة الأساسية تتمثل في الوفرة العددية في وقت ينصب فيه التركيز حاليا على مكافحة الإرهاب والعراق وأفغانستان والصحوة العربية” حسب تعبيره.
“من يعرفون أكثر يقلقون أكثر”
لكن الأمر لا يتعلق بالوفرة العددية وحدها. فجحافل الغرب من المتخصصين في الشؤون السوفيتية لم ترصد -باستثناء قلة قليلة- منذ انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1989.
ويقول مسؤولون ومحللون إن هناك شعورا متزايدا بأن الغرب كان ينبغي له أن يكثف التركيز على روسيا وبخاصة مع تزايد إنفاقها الدفاعي بنحو 30 في المئة بعد حربها مع جورجيا عام 2008.
في هذا الاطار، قال المسؤول السابق في البنتاغون والباحث الحالي بمركز “أمن أمريكي جديد” إلبريدج كولبي “من يعرفون أكثر عن قدرة الدفاع الروسية هم عادة من يأخذون الأمر بجدية أكبر”. ويشير خبراء الى أن بعض دول وسط وشرق أوروبا والدول الاسكندنافية تركز منذ فترة معظم -ما لم يكن كل- مواردها المخصصة للمخابرات والدفاع على الجانب الروسي. وتعتبر بولندا والسويد على وجه الخصوص على رأس هذه المجموعة وتلحق دول أخرى الآن بالركب.
وتنقل “رويترز” عن مصادر في مخابرات غربية إن من بين الأسباب التي جعلت أحداث القرم تأخذ واشنطن وحلفاءها على حين غرة هو أنه خلال الحشد العسكري الروسي في المنطقة لم يكن هناك مؤشرات تذكر على حدوث تدخل عسكري وشيك للاستيلاء على شبه الجزيرة، على الرغم من أن موسكو حشدت علانية قواتها قبل أيام بدعوى إجراء تدريب. ويرى البعض أن عدم فك رموز مثل هذه “الشيفرات” الواضحة ينم عن أن المحللين فقدوا قدرتهم على تقييم تصرفات القيادة الروسية والتكهن بها. اما الان ومع ان المسؤولين الأمريكيين يتابعون عن كثب حشد القوات الروسية على الحدود الشرقية لأوكرانيا فان الخبراء الغربيين يختلفون بشأن ما إن كان بوتين يعتزم غزو المنطقة.
شبكة جواسيس واختراق إلكتروني
ويلفت تحقيق “رويترز” الى أنه بالنسبة للولايات المتحدة فقد ساعدت واقعتا تجسس أمكن رصدهما خلال العقد الأخير في إعادة الأنشطة الروسية المريبة إلى دائرة اهتمام أجهزة المخابرات. الواقعة الأولى حصلت عام 2008 حين تم اكتشاف برنامج تجسس متطور أطلق عليه اسم “إيجنت بي.تي.زد” أصاب أجهزة كمبيوتر خاصة بوزارة الدفاع بعد تسلله إليها عبر وحدة تخزين (يو.إس.بي) عثر عليها لاحقاً في مرأب سيارات تابع لقاعدة عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط.
وتكشف الوكالة ان مسؤولي البنتاغون أمضوا شهورا في تنظيف الأنظمة الإلكترونية ولا يزال هذا الهجوم واحدا من أخطر حوادث اختراق الأمن الإلكتروني التي عانت منها الحكومة الأمريكية. ورغم أن واشنطن لم تتهم أحدا رسميا صرح مسؤولون أمريكيون لـ”رويترز” أن موسكو هي المشتبه به الرئيسي.
أما الحدث الأبرز الثاني فكان إلقاء القبض على عشرة جواسيس في الولايات المتحدة وطردهم ومن بينهم أنا تشابمان التي أصبحت مذيعة بالتلفزيون الروسي واكتسبت صيتا ذائعا. وجاء ذلك بعد معلومات من معارض روسي وتحقيق موسع أجراه مكتب التحقيقات الاتحادي الأمريكي.
اما في بريطانيا فبدأت الأجهزة الأمنية إيلاء قدر أكبر من الاهتمام بروسيا بعد مقتل ألكسندر لتفنينكو المعارض لبوتين نتيجة تسمم إشعاعي عام 2007.
وتختم “رويترز” تحقيقها باستنتاجين. الاول هو أنه “ربما يسهم ضم روسيا للقرم في إحياء تخصصات عسكرية مثل حروب الدبابات والغواصات التي أهملت بسبب الحملة الطويلة في أفغانستان ذات الأراضي الجبلية الوعرة والتي لا تطل على بحار، لأن طالبان ليس لديها غواصات”.
أما الثاني فتحيله الوكالة الى فكرة أن بعض المشاكل المتعلقة برؤية المواقف الروسية ربما تكون اجتماعية أكثر منها سياسية، وتتكئ هنا على تصريح إلبريدج كولبي المسؤول السابق في البنتاغون متحدثا عن الولايات المتحدة اذ يقول: ” حين تكون المشاعر الوطنية عالية بقوة في بلد ما فإن هذا البلد لا يتسامح مع وطنية الآخرين، نحن ببساطة لا نرى وطنيتهم أمرا مشروعاً”.
لكن هل تبقى الولايات المتحدة تدفع ثمن استعلائها وعنجهيتها في التعامل مع الاخرين ويزداد تقصيرها في فهم الروسي كما يطمح بأن يكون أم كما تريد هي ان تراه فقط.