بذور النهضة المبعثرة لا تبني وطناً!
كيف تنهض البلاد وبذور النهضة يابسة ومتفرّقة؟… كيف سيكون الإنتاج ونار الحرب الاقتصادية والاجتماعية والنفسية ما زالت مشتعلة في الرؤوس والنفوس، تحصد أرواح البشر في ربيع الأيام السوداء، التي لم تزهر إلا حقيقة القهر والفقر والمرض والذلّ الذي يعيشه الإنسان في لبنان؟…
هذا البلد السجين بين الحدود الوهميّة يدفع ثمن انفصاله عن ذاته القوميّة مجموعات طائفية موزّعة على المناطق اللبنانية، حكمت لبنان وما زالت وكأنه جمعية طائفية متحكمة بموارد البلد، وتوزع فتات أموالها على الشعب! هذه الجمعية التي كتبت مشاريع تبعيّتها واستسلامها وخنوعها لتحصل على التمويل، ها هي تستكمل مشروع تخريب لبنان وتقسيمه وتشتيت أبنائه، لنراها تضرب في السيادة وفي الدستور والقانون، فترسم على طريقتها القضاء والإدارة والمؤسّسات، لنرى التشوّهات في مراكز القرار الرسمية والخاصة، في المدارس والجامعات، في الشركات والمستشفيات، في الشوارع والطرقات، إلا أنّ أخطر التشوّهات كانت تلك التشوّهات العقلية والأخلاقية والروحية التي رسّخت واقع لبنان المشوّه المريض، الغارق حتى الموت. إلا أنّ السؤال الأهمّ هنا، هو عن كيفية الخروج من هذا التفسّخ الروحي في لبنان، حيث تطغى فلسفة الموت على الحياة، وبالتالي ما هو دور أبناء الحياة في هذه المواجهة؟ وهنا نطرح إشكالية مثيرة للجدل حول دور مَن يهدم كلّ شيء من أجل السلطة والمال! وبالتالي ماذا ينفع لو ربحتَ السلطة والعلاقات والمواقع والمراكز وخسرت ذاتك القيميّة والأخلاقية والعقائدية؟ ماذا تنفع كلّ هذه الخلافات والانقسامات والمهاترات أمام قضيّة تساوي الوجود؟ ماذا تنفع الأعمال والأفعال إنْ كانت جزئية وليست شاملة لمن هم محور القضيّة الإنسانية والوطنية؟ أو أننا سنبقى نتحايل على المبادئ ونرسم بأطماعنا وأنانيتنا طريق الزوال والهلاك والتباعد والتشتت في ما تبقى لنا من مواقع تشبه متاريس الحرب..؟
من هذا المنطلق، لا تبنى الأوطان بالنزاعات والصراعات وحروب الإلغاء.. كما أنها لا تُبنى بالانتماءات والولاءات الضيقة، ولا بالتبعية العمياء لأمراء الحرب والطوائف وملوك السفارات والعلاقات الديبلوماسية المنمّقة.
صراع البناء، تربوي – أخلاقي… فالتربية على الأخلاق والانتماء لمحور الإنسانية والوطنية هو الأساس الذي يُبنى عليه الوطن، خاصة أننا نفتقد لهذه الوطنية وباتت القيم الأخلاقية وجهة نظر…
وبالتالي لا يمكن أن تكون النهضة في الظلام، ولا في بيع الكلام، كما أنها لن تتحقق في هذا الزمن الرديء سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأخلاقياً…
من هذا المنطلق، علينا أن نقتل في أنفسنا فلسفة الادّعاء بأننا نملك الحياة والأرض والسماء، ونحن بين القول والفعل نعيش بانتظار الموت، تتقاذفنا رياح البغض والنميمة والتعصّب والجهل،
علّنا نكون في قلب وحدتنا الفلسفية الروحية، وتكون قوّتنا في عقيدتنا نقطة الفصل في المواجهة والصراع… فنحن نعيش زمن النكبات واضمحلال القيم والتسويات القاتلة لبناء الدولة… حيث يُفترض بنا أن نساعد في عودتها إلى الحياة بعد الثبات العميق الذي تعيش فيه.. فهي بمتناول الطائفيين الانتهازيين والسياسيين الفاسدين ويتحكم فيها الغرب والشرق وتحكمها منظمات تحت غطاء الخدمات…
لكن يبقى السؤال: كيف يكون الصراع من أجل إحقاق الحقّ وبناء الدولة ونحن لا نستطيع ان نبني أنفسنا ووجهة صراعنا مؤسّساتنا وتاريخ نضالنا؟ كيف سنساهم في التغيير ونحن لا نستطيع أن نغيّر ذرة من الأنانية في عقولنا؟
لذلك، لم يعُد مجدياً الحديث عن النهضة وروادها يتقاتلون… كما أنه لم يعُد مجدياً في التحليل السياسي أن نتناول الطبقة السياسية الحاكمة ولا حتى متابعة الأخبار المتعلقة بشؤون الدولة وتشكيل الحكومة والخلافات والخطابات والاتهامات والتجاذبات بين الكتل السياسيّة والأحزاب الحاكمة والأشخاص المتربّعين على الحكم منذ عشرات السنين…
علّنا نعيد للعلم دوره في مقاربة الحياة السياسية اللبنانية… فالإشكاليّة واضحة وهي بنيوية متجذرة، وما علينا إلا إيجاد الحلول لقلب المعادلة.. نعود إلى قراءة الدراسات والأبحاث والمقالات العلميّة التي تحدّد أوجه المشكلة بكلّ تفاصيلها، ثم نشاهد عشرات المقابلات واللقاءات والمؤتمرات والندوات التي تعود وتحدّد المشكلة بعناصرها المختلفة، حتى أصبح الجميع من مثقفين وغير مثقفين، من مواطنين أو قادمين من كلّ أصقاع العالم يكتب ويحلل في السياسة اللبنانيّة.
هذا البلد إما أن تغرقه بالمال فتغذي فيه روح الفردية والأنانية، أو تغرقه بالفقر والجهل فتغذي فيه روح التبعيّة. أما الغذاء الأساسي للخراب والتدمير والرجعية فهو غذاء الطائفيّة التي تحوّلت إلى قيمة حياتيّة لا تتزعزع من النفوس وباتت مترسّخة في الأذهان والأقوال والأفعال وباتت هي الحكم بين المظلوم والظالم… فالأساس التربوي على المواطنية مفقود، حيث تجد العائلات مبعثرة بين منطقة وأخرى، والمدارس مشتتة بين طائفة وأخرى، والبيئة التي تحضن الجماعة تفتقد إلى هويتها الوطنية التي تشكل الترابط الحقيقيّ بين النواة الأولى والجماعة فالمجتمع… وبالتالي نحن لسنا أمام تراجع في القيم الوطنية طالما أنها غير موجودة أصلاً وتحتاج إلى عقود من الزمن لإعادة تشكيلها، والتي تبدأ بزرع بذور المواطنيّة والانتماء في العقول البيضاء والتغيير الجذري في المنهج التربوي والمدرسيّ وصولاً إلى المراحل التعليميّة المتقدّمة التي تنبذ الطائفية والتكتلات السياسيّة المذهبيّة وأمراء المناطق المتموّلين ورؤساء المحاور المخرّبين!
علينا إعادة هيكلة هذا البلد، عبر وضع خطة استراتيجية تغييرية شاملة تبدأ أولاً بفصل الدين بكافة مؤسساته عن الدولة، ومن ثم وضع برنامج زمني قد يمتدّ لعشرات السنوات لإعادة إنتاج مجتمع مدنيّ جديد وبقيم مختلفة تماماً!
أما الرهان على البطولات الشخصية والثورات والتحركات الشعبية الفوضوية لتحسين صورة البلد ومعالجة مشاكله فهو رهان خاطئ وخطير وبرهنت التجارب والحروب ذلك… خاصة أننا أمام مجتمع منقسم على ذاته غير منسجم وسهل الاختراق ثقافياً وأمنياً، فنحن وعلى الرغم من وحدتنا الروحيّة والماديّة والطبيعيّة الجغرافيّة إلا أننا تحوّلنا بفعل التثاقف والتبعية إلى مجموعة ثقافات متناحرة، وكيانات غريبة في كيان واحد واضح المعالم في أصوله التاريخية والحضارية، إلا أنّ الجماعات الطائفية التي تولت الحكم منذ تاريخ انفصال لبنان عن خريطته الطبيعية اختصرت لبنانها بطائفتها.. واختصرت الطائفة بمرجعيّتها الموزّعة على أماكن مختلفة من العالم.. ما أدّى إلى تحويل لبنان منذ قيامه إلى مجرد جمعية طائفية نفعية يشترك فيها الجميع من مستفيدين ومنتفعين ومتموّلين وفقراء وأغنياء وكلّ أطياف المجتمع.. إلا أنّ مَن يديرها ويكتب مشاريع تمويلها هم الفئة الطائفية السياسية الفاسدة التي أسّست هذه الجمعية وباتت تتحكم بشؤونها كافة.
أما الحلّ النهائي، فهو تطبيق الفكر اللاطائفي العلماني وعودة أبناء الحياة إلى عقيدة الصراع موحّدين بالروح القومية النهضوية التي تعتبر الخلاص الحقيقي للبنان وكلّ كيانات الأمة. هذه الوحدة هي القوة الفصل… كونوا أقوياء بوحدتكم.. اجمعوا بذور النهضة المتفرّقة وازرعوها في أرضنا الواحدة. علّ الحصاد يكون في الربيع الآتي!