بايدن في أوروبا الخائفة من عودة ترامب
صحيفة الوفاق الإيرانية-
حسين قطايا:
لا تخفي إدارة بايدن أهدافها من استعادة التحالف مع أوروبا، وتعدّ أجندتها واضحة باستهداف الصعود الصيني والتمدد الروسي، بوصفهما يمثّلان “تهديداً استراتيجياً للقيم الديمقراطية الغربية”.
تحرّكت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن الجديدة بسرعة لاستعادة التحالف مع أوروبا، واتخذت العديد من الخطوات لتسهيل “المصالحة”، من العودة إلى “اتفاق باريس للمناخ” والتعهد بتعزيز قوة “حلف الناتو”، إلى تجديد الالتزام بحماية القارة وضمان أمنها، والأخيرة تشكل بوابةً تعيد الهيمنة الأميركية، عبر الاعتماد الأوروبي المفرط على أميركا في “أمنها القومي”، وبالتالي، تعثر الطموحات الأوروبية بهامش مستقلّ في الساحات الدولية.
يعرف بايدن وحلفاؤه الأوروبيون أن الزمن تغير، وأنَّ عودة أميركا للتربّع على رأس الطاولة الغربية لا تحلّ مشكلة، وربما تكون المشكلة نفسها. “المرحلة الترامبية” لم تهبط من علّ مجهول، ولم تؤلّف أزمات بقدر ما عبَّرت عنها، ولو بأسلوب مستهجن، وأنَّ عشرات ملايين الأميركيين الذين يؤيدون “الترامبية”، ومثلهم من الأوروبيين، يشكلون تياراً واسعاً في الثقافة والقيم الغربية المشتركة، وهو تيار يعارض جوهرياً المنظومة الليبرالية، ويفضّل الشعبوية على الديمقراطية، والدولة الوطنية على العولمة، وأن “غزوة الكابيتول” لم تكن سوى تتويج لأزمات متلاحقة تصيب دول التكتل.
يذكر أنَّ الجمهوريين رفضوا إنشاء لجنة من الحزبين للتحقيق في أحداث “غزوة” الكونغرس قبل أيام من مغادرة ترامب، وأنَّ نصف الأميركيين يعتبرون جو بايدن أضعف رئيس أميركي على الإطلاق، وأنه لا يستطيع التحدث لمدة 10 دقائق من دون أن يقول شيئاً غبياً، ولا يمكنه الصعود إلى الطابق العلوي من دون أن يسقط على وجهه، وأنه لم يفز في الانتخابات بل سرقها.
لا تخفي إدارة بايدن أهدافها من استعادة التحالف مع أوروبا، وتعدّ أجندتها واضحة باستهداف الصعود الصيني والتمدد الروسي، بوصفهما يمثّلان “تهديداً استراتيجياً للقيم الديمقراطية الغربية”. إنَّ شعار المعركة الكونية بين قوى الخير والشرّ يعاد استخدامه بلا كلل، وبغضِّ نظرٍ مشين عن فقدان الحوكمة الغربية مصداقيتَها خلال العقد المنصرم أمام الشعوب التي تم استهدافها بالبارود أو العقوبات، وأمام شعوبها المتلاعب بها.
لقد قطعت دول الاتحاد الأوروبي أشواطاً في العلاقات مع الصين وروسيا. وقد كان “الاتفاق الاستثماري” مع الأولى، وخطّ “نورد ستريم 2 ” مع الثانية، حقائق استراتيجية منجزة. ولن تنجح الضغوطات الجارية للتضييق على “اختراقات موسكو” وبكين في كل أرجاء القارة الأوروبية سوى في استعراضها الاستهلاكي، نظراً إلى القدرة الأميركية المتآكلة على تشكيل أحداث العالم. وكان تحذير الكرملين لواشنطن من التدخّل في الملف الأوكراني واضحاً بقوّته وحزمه، وكذلك “النصيحة” لواشنطن بعدم اللعب بالنار في بحر الصين وتايوان.
تدرك إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن أنَّ رحلة الأسبوع إلى القارة الأوروبية لن تحدث المعجزات في متغيرات ترسَّخت خلال السنوات الأربع الماضية. كذلك، يدرك الأوروبيون أن العودة في العلاقات بين ضفتي الأطلسي إلى ما قبل رئاسة دونالد ترامب غير واقعية، وإعادة تدوير مرحلة باراك أوباما مهمة شبه مستحيلة، فقد غيرت “أزمات” حكم ترامب وأزمة الجائحة أوروبا بشكل عميق، وأدت إلى اتجاهات في الرأي العام وفي مؤسسات الاتحاد الأوروبي ترفض بحزم “التبعية التقليدية لواشنطن”، وتسعى لعلاقة أكثر توازناً، وشراكة فعلية، وإملاءات أقل.
يدعم بايدن الاتحاد الأوروبي كشريك متساوٍ في العلن. وفي الخفاء، يريد من أوروبا تقاسم الأعباء، لا المسؤوليات القيادية، من دون أن يوضح التكاليف التي ستتحمّلها أوروبا في الحرب الباردة الجديدة التي يعدّ لها على قدم وساق في واشنطن، ويروّج لها تحت شعار “أميركا عادت”. والمقصود بها أنها عادت إلى “قيادة العالم”، وهي مقولة عدوانية في الأصل، وتطعن أسس الديمقراطية، فلم ينتدب أحد الولايات المتحدة لتكون وصية على العالم، كما أنّ سجلّها الأخلاقي لن يؤهّلها لذلك، وتصنّفها استطلاعات الرأي الدولية كأكثر الدول رعباً وإجراماً في التاريخ، وهي تعاقب ثلث البشرية (39 دولة) خارج أي قانون وأي شرعية، وتتفلَّت مع حلفائها من أي عقاب، وتنشر مئات القواعد العسكرية حول العالم لإخضاعه، لا لإقناعه بمثالية النظام النيوليبرالي المأزوم.
لقد تدهورت سمعة أميركا العالمية، إلى درجة أنه سيكون من الصعب إقناع الحلفاء قبل الخصوم بعكس ذلك، وباتت غالبية الجمهور الأوروبي تفضّل البقاء على الحياد، بدلاً من الانحياز إليها، كما أنَّ معظم الأميركيين ليس لديهم ثقة قوية بمستقبل بلادهم.
لن تخفّف اجتماعاتُ “القمم” التي يشارك بايدن فيها القلقَ الأوروبي المتزايد من مستقبل النظام السياسي الأميركي، وسط انقسامات شعبية أميركية غير مسبوقة، تضعف ثقة الدول الأوروبية بتأكيدات مسؤولي البيت الأبيض أنَّ الدبلوماسية الأميركية المستقرة عادت إلى الأبد. والتخوّف الأكبر أن لا ينتهي بهم المطاف بعد 4 سنوات في المكان الذي كانوا فيه، والخوف الأكبر في أن يكون ترامب عائداً أيضاً.