باسيل والحريري: البقاء للأذكى
موقع قناة الميادين-
غسان سعود:
كان يمكن الحريري أن يقفز ويسبح بهدوء إلى إحدى الجزر، ليراقب من هناك سَيْرَ الأحداث، لكنه لم يفعل: لقد قفز في الفراغ، وبدأ من هناك رَشْقَ عون وباسيل وحزب الله.
في صبيحة 18 تشرين الأول/أكتوبر 2019، كانت طريق أحد الضباط إلى بعبدا محفوفة بالطرقات المقطوعة، لكنه كان هناك في الوقت المحدَّد، قبل السابعة بقليل، بحيث وجد في انتظاره نحو سبعة أشخاص آخرين دخلوا معه لاجتماع مع الرئيس ميشال عون دام نحو ساعتين.
عرض كلٌّ منهم المعطيات أولاً، ثم تحليله ثانياً، وتوقُّعاته ما يمكن أن يحدث ثالثاً. فصل المعطى (1) عن التحليل (2) عن التوقع (3)، مهم جداً في أيّ حوار. قالوا جميعهم كل ما لديهم. بقي الرئيس عون مصغياً حتى وصل دور الكلام إليه، فقال باختصار إنها عاصفة كبيرة، تستوجب صموداً، سياسياً وأمنياً، مهما بلغت ضراوة البرق والرعد الإعلاميين. وما دامت هي إعلامية أكثر منها شعبية، فلا شيء يستدعي الهلع. كل المطلوب هو إحكام إغلاق النوافذ والأبواب لمنع الدخول والخروج. وفي اليوم نفسه، قال الرئيس عون لأحد معاونيه إن الضغط الأكبر يتركّز على حالات الانقلاب المماثلة على الانشقاقات (وبالتالي الخروج). ومع ذلك، لا بدّ من التدقيق في خلفية مَن سيحاولون الدخول بذريعة المساعدة والإنقاذ وسماع نصائحهم باهتمام من أجل فهم المشهد أكثر. وهو، الذي عايش جميع أشكال الخيانات والاختراقات في حياته، قال أيضاً إن ما يواجههم هذه المرة ضخم للغاية.
في مساء اليوم نفسه، كان رئيس الحكومة السابق سعد الحريري يتَّصل بالقصر الجمهوري، طالباً من الرئيس الأعلى للقوات المسلحة أن يطلب من قائد الجيش إبعاد المتظاهرين عن السرايا الحكومية، مهما تكن التبعات، في نبرة غلب عليها الهلع، في ظل شعور الحريري (شعور خاطئ طبعاً) في تلك الأيام بأن ما يحدث في الشارع إنما هو انقلاب عليه وحده. كانت علاقته المتوترة منذ أسابيع برئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، تدفعه إلى التفكير في هذا الاتجاه، وخصوصاً أن باسيل تجاهل كل اتصالات الحريري في ذلك اليوم. كان باسيل يفترض أن ما يحدث في الشارع هو نتيجة طبيعية لإصرار الحريري على عدم إنجاز أي شيء، وهو، إذ هدَّد قبل 17 تشرين الأول/أكتوبر ببضعة أيام، بقلب الطاولة، فإنه كان يحاكي كل ما يصله من نقمة شعبية محقّة. أمّا عون، فأكّد للحريري أنه سيراجع قائد الجيش فيما يخص أمن السرايا الحكومية، وهو ما تُرجم في تدخُّل عسكريّ حاسم في منتصف تلك الليلة، من أجل إبعاد المتظاهرين عن مقرّ رئاسة الحكومة.
في الأيام القليلة اللاحقة، كانت تهديدات السفراء، وصِحافة السفارات، وبعض الصحافيين المحيطين بالرئيس الحريري، تأخذ السرايا الحكومية يميناً ويساراً. وكان واضحاً تأثره بهؤلاء أكثرَ كثيراً من تأثره بالمعلومات والتوصيات المقتضَبة، والتي يقدِّمها حزب الله.
أمّا في القصر الجمهوري، فنشطت الغرفة الأمنية الصغيرة في تنظيم المعطيات، وفق عدة مستويات:
1. ما تسوقه السفارات وتسرّبه، وتهدّد وتتوعد به.
2. مَن تساقط ممن يدورون في الفلك العوني، من الأقربين والأبعدين، نتيجة الضغوطات المتنوعة.
3. طبيعة وحجم وهوية المشاركين في التحركات، مع رسم خريطة واضحة بشأن التحركات، تتضمّن الهويات الكاملة في كل نفطة. وهذا كان أساسياً جداً في استيعاب ما يحدث، لأن نقطة قوة المنظِّمين كانت في مباغتة السلطة في التوقيت أولاً، وإشعارها بأنها تواجه المجهول ثانياً. وبعد بضعة أيام، لم يعد المجهول مجهولاً، وإنما باتت كل معالمه واضحة جداً.
في مقابل تأمين القصر الجمهوري المعطياتِ الدقيقةَ من مصادر موثوقة وفرزها، تخبّط ساكن السرايا الحكومية بمعطيات مضلِّلة. وفي مقابل انكفاء الحريري، جدَّدَ عون دفتر مواعيده ليلتقي، طوال عشرة أيام، أكبرَ عدد ممكن من ضبّاط الأمن والعسكر والقضاة والأطباء والمحامين ورؤساء المجالس البلدية ومخاتير القرى الجبلية البعيدة وصحافيي المناطق. ومرة جديدة: معطى، تحليل، توقُّع. يلتقط تفصيلاً من أحد ضيوفه ويبدأ تفصيله مع الحاضرين أكثر فأكثر. بالنسبة إليه، المعطى الاستراتيجي المرتبط بأوضاع المنطقة (الذي يقدّمه حزب الله غالباً) مهم جداً. لكن، لا بد من وصله بصورة وثيقة بالأرض، ومحاولة إيجاد التقاطعات لتعزيزه أو دحضه. والأهم من هذا كله، هو التواصل المباشر. ففي لحظة التضليل الإعلامي الهائل، كان لا بد من أن ترى الفعاليات الأساسية، بالنسبة إلى عون، أنه يسألها رأيها ويسمع ويتأثر ويؤثّر، مع العلم بأن التواصل شمل أيضاً أكاديميين وإداريين ورهباناً، كان لهم دورهم في 17 تشرين الأول/أكتوبر، لكن التواصل المباشِر مع الرئيس خفّف كثيراً غضبهم ونقمتهم، وحدَّ من تصويبهم المباشر عليه. وإذا كان الخصوم خطّطوا لزعزعة القصر من الداخل، فإن الرئيس استنهض (عبر هذا التواصل المباشِر مع أكبر عدد ممكن من الفعاليات) حائطَ دفاع لم يحسبوا له أيَّ حساب.
كانت الأدوات في يد سعد الحريري أكثر كثيراً من تلك التي في يد ميشال عون، لكن إرادة القتال عند عون كانت أضعافها عند الحريري. يواجه الأخير جميع الاستحقاقات التي تصادفه بإرادة استسلام منقطعة النظير. ليست حياته، سياسياً ومهنياً وعائلياً، سوى استسلامات متتالية. وفي وقت كان الحريري يعلن استقالته، بموجب نصيحة أميركية تخالف نصيحة حزب الله، كان عون يشعر بأن عين العاصفة مرّت بهم وصارت الآن وراءهم. في اليوم نفسه، كان الرئيس عون يقول لجيرانه إن “العواصف تنظّف الأشجار من الأوراق اليابسة”.
وعملياً، كان بدا واضحاً، بعد أسبوعين على 17 تشرين الأول/أكتوبر، أن الإعلام فشل في الحلول محل الماكينات التقليدية في الحشد والتعبئة والنقل والطبع وتأمين لوجستيات الثورة. فمع مطلع الأسبوع الثالث، كانت “الثورة” تبدأ مع بدء البث المباشِر وتنتهي مع انتهائه. “ثورة” على توقيت نشرات الأخبار. كان مشهد خصوم العهد، مجتمعِين مرةً واحدة، مربِكاً طبعاً، لكن التدقيق كان يبيّن أن من خاضوا المعارك المتعدِّدة (رئاسيةً وسياسيةً وطائفيةً ومذهبيةً وحكوميةً وإداريةً ونقابيةً وبلديةً واختيارِيَّةً) ضد عون بالمفرق يخوضون بالجملة مجتمعين معركة ما بعد بعد عون؛ ضد جبران باسيل. وكما فعلوا مع عون عام 1990، فإنهم تغاضَوا عن جميع خلافاتهم وتمايزاتهم هذه المرة أيضاً، ليحاولوا التخلص من باسيل.
في الشكل، كانت “17 تشرين الأول/أكتوبر” انتفاضة ضد ثنائية الحريري – باسيل الحاكمة. الأغلبية العظمى من “الثوار” (وخصوصاً الذين يدورون في فلك النائب السابق وليد جنبلاط والقوات اللبنانية والكتائب والأمانة العامة لـ”14 آذار”، التي كانت تضم عشرات الناشطين السياسيين الذين خلعوا الـ”فولار” الأبيض والأحمر عن رقابهم ليرفعوا لواء جمعيات و”مجموعات” جديدة) كانت مشكلتهم الوحيدة مع الحريري أنه تحالف مع باسيل. وها هو الحريري يَراهم من خلف النوافذ يتجاهلون سوليدير بالكامل والهيئات والمجالس والصناديق، التي تَتْبَع رئاسة مجلس الوزراء، ولا يذكرون إلاّ البواخر، كأنها الخطيئة الوحيدة في تاريخ الحريرية، لمجرد أن الرأي العام يربط باسيل بها أيضاً.
كان المشهد في الخارج واضحاً: لا مشكلة مع الحريري. المشكلة مع تحالف الحريري وباسيل. وها هنَّ السفيرات ينصحن: أَنْقِذْ نفسك عَبْرَ القفز من المَرْكِب. إذا كانت السفارتان الفرنسية والأميركية استنفرتا جهازيهما لمحاولة إقناع أقرب المقربين إلى عون بهذه النظرية، فما حال الأبعدين، مثل سعد الحريري. لا يحبّذ الأخير مبدأ العِبَر، القريبة والبعيدة، المحيطة بنا من كل صوب. فضّل نصيحة سفيرة ستعجز عن تذكُّر اسمه بعد الانتقال إلى بلد جديد آخر، على سماع نصيحة رئيس الجمهورية والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله.
بالنسبة إلى الأميركيين، كان مركب العهد يتخبَّط، وما غَرَقُه إلاّ مسألة أيام. أما بالنسبة إلى الرئيس عون وباسيل وحزب الله، فلم تكن همسات سفراء أميركا وفرنسا والإمارات والسعودية سوى تكرار هزليّ مضحك للأيام القليلة (أو الساعات) التي كانت تفصلهم عن إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد، واجتياح “إسرائيل” للجنوب والبقاع وبيروت من أجل نزع سلاح حزب الله، وإصدار المحكمة الدولية أحكامَها المُبْرَمة، وغيرها الكثير الكثير. ومع ذلك، كان يمكن الحريري أن يقفز ويسبح بهدوء إلى إحدى الجزر، ليراقب من هناك سَيْرَ الأحداث، لكنه لم يفعل: لقد قفز في الفراغ، وبدأ من هناك رَشْقَ الرئيس وباسيل وحزب الله بكل ما يمكن من خبث وحقد وكره وإشاعات ودسائس وتخريب.
ما سبق كان يفترض تأجيل الكتابة عنه حتى الذكرى الثانية لـ17 تشرين الأول/أكتوبر، لكنّ طيَّ السرايا الحكومية صَفْحَةَ سعد الحريري أخيراً استوجب الكتابة اليوم. لم تكن هذه مجرد معركة بالنسبة إلى الحريري، كما هي بالنسبة إلى الرئيس عون أو باسيل أو حزب الله أو جنبلاط أو بري أو القوات، وإنما كانت حرباً خسرها سعد الحريري. الرجل الذي يلاحقه وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، قضائياً ومالياً وسياسياً، تخلّى عن الحصانة الدولية الممنوحة له، بصفته رئيساً لحكومة لبنان، وقفز في المجهول. وها هو يرى اليوم أن المركب الذي قفز منه لم يغرق، بعكسه هو، مع العلم بأن حزب الله كان رمى إليه أكثر من طوق نجاة، حتى بعد تجاهله كلَّ نصائح الحزب، لكنه عمد إلى تمزيق قوارب النجاة.
وها نحن اليوم: حزب الله هو حزب الله. عون يُمضي ما تبقّى من عهده في بعبدا، بكتلة وزارية توازي ثلاثة أضعاف الكتلة الحريرية. باسيل لا يجد مَن يأتي على سيرته سلباً منذ أكثر من ثمانية أشهر، باستثناء سمير جعجع طبعاً. بدوره، يرأس سمير جعجع الحزب الثالث (المَقال المقبل يشرح لماذا الثالث، لا الثاني) عند المسيحيين، مستفيداً من “فندرايزنغ” خليجي كبير. أمّا الحريري فأُعِدّت له أكثر من سبعة ملفات قضائية، لتُفْتَح في التوقيت السياسي الملائم، وهو ملاحَق بكل أنواع الدعاوى العائلية والمالية والسياسية في الخارج. ولا يجد، بين من احتمى بهم واستمع إلى نصائحهم، مَن يموِّله أو يُخرجه في ضائقته. في وقت تؤكد المعلومات الإماراتية أن ولي العهد السعوديّ يقطع علاقته فوراً بكل من يقول له سعد الحريري مرتين، سواء كان موظفاً سعودياً، أو صديقاً خليجياً، أو دبلوماسياً غربياً، مفترضاً أن هذا تدخُّل سافر في شؤون العائلة الحاكمة والقضاء والدولة. ولا تجد الإمارات بالتالي ما تمنحه له سوى فيلاّ يملأها الفراغ. وهو، في تقييم الاستخبارات الأميركية، مجرَّد أداة فاشلة جُرِّبت أكثر من مرة.
وفي النتيجة، كان الرئيس عون يقول، قبل عودته إلى لبنان عام 2005، إن الحريرية حبل مشنقة يخنق اللبنانيين ببطء. أمّا اليوم فهذا الحبل قُطِع. صحيح أن استعادة اللبناني أنفاسَه ستستغرق وقتاً، وصحيح أن الأزمة، اقتصادياً ومعيشياً ومالياً، كبيرة ومتعبة بالنسبة إلى جميع اللبنانيين، وصحيح أيضاً أن الحريري كان الرجل الثاني وليس الأول في هذا النظام، إلاّ أن الحريري كان حجر الزاوية في الاقتصاد والمال وإدارة الدولة. ويمكن هنا تسجيل ملاحظتين إضافيتين:
أولاً، لم يكن يمكن التفكير في أيّ إصلاح اقتصادي أو مالي أو إداري في ظل وجوده.
ثانياً، لم يكن يمكن تخيُّل لحظة سياسية لا يكون موجوداً فيها. لذلك، كان البحث يتركَّز على ما يمكن فعله في ظل وجوده. أمّا اليوم فتغيَّر كل شيء: أَخرج نفسه بنفسه.
حين طُرِحت معادلة خروج الحريري وباسيل معاً من الحكومة، أو عودتهما معاً، اعترض باسيل حتى في مجالسه الخاصة، وقال كلاماً واضحاً: إن المعادلة هي عون والحريري، وليس باسيل والحريري. لكن الوجود في الحكومة أو عدمه تفصيل، مقارنة بالوجود السياسيّ.
كان العامان الماضيان أشبه بحرب وجودية بالنسبة إلى باسيل، وها هي النتيجة: باسيل ما زال موجوداً. الحريري لم يعد موجوداً. السياسة ليست همسات سفير ونصائح مَن تدسّهم السفارات في قصور الرؤساء. السياسة معطى متكامل، داخلي وخارجي: (1) تحليل هادئ وتوقّع لما يمكن أن يحدث، (2) والوقوف بشجاعة عند حافة الهاوية، لكن مع عدم القفز مهما كانت المغريات، (3) والأهم من هذا كله أن البقاء في السياسة هو للأذكى، كما يقول اليابانيون، لا للأقوى كما يسوّق الأميركيون، ولا للأثرى كما يتنبّأ الألمان، ولا للأخبث كما يمارس الإسرائيليون.