انهيار المصارف الأميركية بين الصلة الإسرائيلية والأزمة البنيوية
موقع قناة الميادين-
إبراهيم علوش:
انفلات معدلات التضخم عام 2022، وتحول البنوك المركزية إلى رفع أسعار الفائدة لكبحها، دفعا أسعار السندات والأذونات الحكومية، التي اشترتها البنوك سابقاً، إلى الانهيار، لأن ثمة علاقة عكسية بين معدل الفائدة من جهة وأسعار السندات القديمة من جهة أخرى.
يُعَدّ بنك وادي سيليكون SVB، قانونياً، مصرفاً تجارياً إقليمياً، رخّصته ولاية كاليفورنيا التي تأسس فيها قبل 40 عاماً. فالبنوك القومية في الولايات المتحدة توجد في اسمها كلمة National، أو رمز N.A.، وبنوك التوفير الفيدرالية، توجد في اسمها كلمة Federal، أو رمز F.S.B. وكِلتا الفئتين من البنوك يرخصهما قسم محدد في وزارة الخزانة الأميركية في واشنطن، لا قسم إدارة المؤسسات المالية التابع لولايات بعينها.
لكنّ بنك وادي سيليكون اكتسب أهميةً قوميةً أميركية ودوليةً، على رغم طابعه المحلي قانونياً، نتيجة:
أ – حجم عملياته بمليارات الدولارات، بمقياس ودائعه البالغة أكثر من 173 مليار دولار، وأصوله البالغة نحو 212 مليار دولار، بحسب تقريره السنوي لعام 2022.
ب – تجذره في منطقة “وادي السيليكون” شمالي ولاية كاليفورنيا، محور عجلة التكنولوجيا العليا والابتكارات الجديدة أميركياً، ومهد الشركات الناشئة في ذلك القطاع، ومقر بعض أهم شركات الـHigh-tech، وعلى رأسها عناوينُ كبيرةٌ مثل Adobe، Alphabet (التي تملك “غوغل” وغيرها)، Apple، Cisco، eBay، HP، Intel، LinkedIn، Meta (“فيسبوك”، “إنستغرام”، “واتس آب”، وغيرها)، Nvidia، Paypal، Zoom، وغيرها كثير.
ج – تربُّعه، أميركياً ودولياً، على رأس شبكة من الشركات المصرفية التابعة أو المملوكة له، وليست رسمياً فروعاً لمصرف SVB. وتنتشر تلك الشبكة عبر 13 ولاية أميركية وعبر القارات، من تورنتو، كندا، إلى جزر كايمان، ثم بكين وشنغهاي وشنزن وهونغ كونغ في الصين، إلى بنغالور، الهند، ثم دبلن، أيرلندا، إلى ستوكهولم، السويد، إلى كوبنهاغن، الدنمارك، إلى فرانكفورت، ألمانيا، إلى دول أخرى في الاتحاد الأوروبي، إلى لندن، بريطانيا، وصولاً إلى “تل أبيب” في الكيان الصهيوني.
د – صِلاته اليهودية، أميركياً وعالمياً، والإسرائيلية في الكيان الصهيوني، إذ إن مصرف SVB في “تل أبيب” ليس مجرد شركة أخرى تابعة للشركة الأم، بل حاضنة لأكثر من 100 شركة تكنولوجيا متقدمة في الكيان الصهيوني، بحسب صحيفة “كلكالِست” الاقتصادية، التي تنشرها مجموعة “يديعوت أحرونوت”، في 10/3/2023، والتي أشارت إلى أن SVB من أقدم وأكثر البنوك مركزيةً في دعم قطاع التكنولوجيا المتقدمة في “إسرائيل”.
ملاحظة أيديولوجية بشأن طبيعة العلاقة بين الصهيونية والغرب
لكنّ هذا رأس جبل الجليد فحسب، إذ تشير صحيفة “غلوبس” الاقتصادية، إحدى منافستي صحيفة “كلكالِست” في الكيان الصهيوني (الثالثة هي “ذي ماركر”)، إلى أن مئات الشركات الإسرائيلية تستفيد من خدمات مصرف SVB، بحسب تقريرٍ لها في 13/3/2023، بشأن انعكاسات انهيار المصرف على المشهد الاقتصادي الإسرائيلي عموماً، وقطاع التكنولوجيا المتقدمة في الكيان الصهيوني خصوصاً.
ما برحنا، إلى هنا، في الحيز الإسرائيلي الصرف لنشاط مصرف SVB، وهو الحيز الأقل أهمية في إبراز صلته الإسرائيلية، لأن الأهم هو صلة بنك SVB ببنك “لئومي”؛ إحدى أهم بنات أفكار ثيودور هرتزل، وأقدم مؤسسة مصرفية في الكيان الصهيوني كانت تأسست عام 1902 في لندن، وافتتحت أول فرع لها في يافا في 2/8/1903 (من كان يحكم فلسطين آنذاك؟)، لتؤدي دوراً رئيساً في تمويل إنشاء ضاحية يهودية فيها، أصبح اسمها رسمياً فيما بعد: “تل أبيب”.
للأمانة، طلبت سلطات الاحتلال العثماني من بنك “لئومي” آنذاك أن يوقف نشاطاته، لكنه رفض، واستمر يمارس عمله الاستعماري بصورة “طبيعية” من دون إزعاج من طرف العثمانيين، وهي ذاتها قصة الخطاب الأجوف والفعل التطبيعي الذي عودنا عليه النظام التركي قديماً وحديثاً.
بيت القصيد: يملك بنك “لئومي” إياه 15% من مصرف SVB الأم في كاليفورنيا، مع العلم بأن فرع “لئومي” في الولايات المتحدة اندمج سابقاً في SVB بحسب تقرير آخر في موقع “كالكالِست” في 12/3/2023 أشار أيضاً إلى أن بنك “لئومي” نجح في استخلاص مليار دولار من ودائع SVB لمصلحة الشركات الإسرائيلية قبل أيام من انهياره رسمياً. يُذكر أن “غلوبس” في 13/3/2023 وبخت المستثمرين الإسرائيليين الذين صدقوا تطمينات البنك ولم يتبعوا التحذيرات لهم بسحب إيداعاتهم فوراً، فعلقت في البنك الغارق.
العبرة، أيديولوجياً، أن الحديث عن رأس المال المالي الدولي يستدعي بالضرورة الصلة اليهودية، وفي هذه الحالة، الصلة الإسرائيلية الصريحة، كما في ملكية “لئومي” 15% من SVB، أهم حاضنة لشركات التكنولوجيا العليا والابتكار في العالم الغربي.
ذكرت “الغارديان” البريطانية في 15/3/2023، على سبيل المثال، أن نحو نصف الشركات الأميركية الناشئة في قطاع التكنولوجيا، والعديد من شركات القطاع الصحي، ترعرعت في كنف مصرف SVB شمالي كاليفورنيا.
جنوبي ولاية كاليفورنيا، في هوليوود، تجد معظم استديوهات الأفلام الرئيسة مملوكةً أو مسيطراً عليها يهودياً، لكن ذلك يجري بصفة مفادها أن المالكين أو المسيطرين مواطنون أميركيون. أمّا في مثال SVB المعبر، أي في حالة رأس المال المالي الدولي، وسيطرته على صناعة التكنولوجيا والابتكار، أهم قطاعات الاقتصاد العالمي قاطبةً، من زاوية نسبة مساهمته في نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، فإن الصلة اليهودية تبرز في لونها الإسرائيلي الواضح، كشريك رئيس، من بين شركاء كبار، في المنظومة، لا بصفتها المهيمن الأوحد، كما يظن من يزعمون أن الغرب مسكين لولا أن اليهود يسيطرون عليه، ولا بصفتها ملحقاً ثانوياً، كما يظن من يزعمون أن اليهود مساكين لولا أن الغرب يوظفهم ضدنا.
باختصار، ليست الصهيونية احتلال فلسطين والجولان فحسب، بل هي أيضاً حركة نفوذ يهودي عابرة للحدود تتخذ فلسطين المحتلة موطئ قدم، وهي شريك رئيس في المنظومة الإمبريالية في عصر رأس المال المالي الدولي، يؤدي على الهامش دور أداة استعمارية محلية في الوطن العربي فحسب، لا حركة استعمار تمثل شريكاً ثانوياً في المنظومة.
مصرف Signature يلحق بمصرف SVB
جاء انهيار أسهم بنك كبير ومفصلي في الاقتصادين الأميركي والعالمي مثل SVB، وإشهار إفلاسه، ووضع حكومة ولاية كاليفورنيا يدها عليه، ثم وضعه تحت عهدة مؤسسة ضمان الودائع الفيدرالية FDIC، مثيراً للاستغراب بالضرورة.
كان ذلك ثاني أكبر فشل مصرفي في تاريخ الولايات المتحدة، بعد فشل مصرف Washington Mutual في الأزمة العقارية عام 2008، والذي كانت تبلغ أصوله آنذاك 307 مليارات دولار (أي 433.81 مليار دولار اليوم).
الطريف أن مصرف SVB بات يعمل تحت إدارة جديدة باسم جديد اليوم هو “بنك جسر وادي سيليكون”، N.A.، أي أنه بات مسجلاً مصرفاً قومياً أميركياً، وليس مصرفاً مسجَّلاً في ولاية كاليفورنيا فحسب، الأمر الذي يمهد لتوسيع نطاق عمله قانونياً. أما “بنك جسر”، فيعني تشغيله انتظار من يشتريه.
المهم، نُشر في 12/3/2023 بيانٌ في موقع وزارة الخزانة الأميركية، باسم وزيرة الخزانة جانيت يلين، ورئيس الاحتياطي الفيدرالي (معادل البنك المركزي الأميركي) جيروم باول، ورئيس مؤسسة ضمان الودائع مارك غروينبرغ، يضمن ودائع مصرف SVB كافةً، فوق الحد القانوني لضمان الودائع وهو 250 ألف دولار للحساب الواحد، ويضمن كذلك كامل ودائع مصرف Signature، الذي يتخذ من نيويورك مقراً، وهو مصرف آخر وضعت الدولة يدها عليها يوم صدور هذا البيان المشترك.
ولم يتضمن البيان أي ضمانات لحملة أسهم البنكين التي انهارت بصورةٍ مريعة، ولا لدائنيهما غير المؤمنة ديونُهم، فالضمانات الكاملة كانت من نصيب المودعين فحسب.
ليس مصرف Signature، بدوره، لاعباً صغيراً في القطاع المصرفي، إذ إن قيمة أصوله بلغت أكثر من 110 مليارات دولار، في حين بلغ إجمالي ودائعه أكثر من 82 مليار دولار، مع نهاية عام 2022. وكان ذلك ثالث أكبر انهيار مصرفي في تاريخ الولايات المتحدة من حيث قيمة الأصول بعد SVB.
الصلة الإسرائيلية: بدأ مصرف Signature شركةً تابعةً لبنك “هابوعاليم”، أي “بنك العمال”؛ أحد أكبر المؤسسات المصرفية العاملة في الكيان الصهيوني منذ تأسس عام 1921 تحت الانتداب البريطاني على فلسطين، بالاشتراك بين اتحاد العمال (الهستدروت) والمنظمة الصهيونية العالمية، لكنه في يدَي القطاع الخاص اليوم.
أمّا مصرف Signature الأميركي فتأسس في عيد العمال العالمي يوم 1 أيار/مايو عام 2001 برأس مال مقداره 60 مليون دولار، قدمه بنك “هابوعاليم” في الكيان الصهيوني.
يقع مقر مصرف Signature في مدينة نيويورك التي يسكنها 1.6 مليون يهودي، في حين يقطن 2.2 مليون يهودي ولاية نيويورك ككل، وهو أكبر تجمع يهودي في العالم بعد الكيان الصهيوني. ويشير تقرير لصحيفة “غلوبس” في 14/3/2023 إلى أن مصرف Signature ظل حتى لحظاته الأخيرة لاعباً مهماً وكبيراً في مجتمع اليهود “الحريديين” (فئة متشددة رافضة لقيم الحداثة) في نيويورك.
لم يؤسس Signature شبكةً دوليةً أسوة بـ SVB، لا بل لم يبدأ التمدد أميركياً خارج ولاية نيويورك إلا في الأعوام الأخيرة، مع تركيز خاص على ولاية كاليفورنيا.
للأمانة، لم أتمكن من تتبع نسبة تملك الشركات والشخصيات الإسرائيلية غير الأميركية لأسهم مصرف Signature قبل وضع اليد عليه، مع العلم بأن بنك “هابوعاليم” باع حصته فيه عام 2005. لكن تقرير صحيفة “غلوبس” في 14/3/2023 يذكر أن مستثمرين عقاريين كباراً في الكيان الصهيوني يُعَدّون من زبائن مصرف Signature، لكنهم “غير متحمسين لأن تذكر أسماؤهم حتى تمر العاصفة”.
لعل هذه الخلفية تساعد على فهم بعض الأسباب التي تجعل وزيرة الخزانة الأميركية، ورئيس الاحتياطي الفيدرالي، ورئيس مؤسسة ضمان الودائع، يعلنون معاً، في بيان مشترك، تجاوز الحد القانوني لضمان الودائع لمصرفي SVB وSignature، البالغ 250 ألف دولار للحساب الواحد، أي أن المستفيد الأكبر هنا هو المودعون الكبار، الذين صدف أن بعضهم إسرائيليون. ولعل الدافع أكثر نقاءً، هو الحرص الوطني على استقرار النظام المصرفي الأميركي، كما أُعلن رسمياً (ولا يستطيع المرء إلا أن يقارن ذلك المشهد باختفاء إيداعات المودعين الصغار والصغار جداً في النظام المصرفي اللبناني).
أزمة مصارف فردية أم أزمة منظومة كاملة؟
قد ترجح أسبابٌ موضعيةٌ انهيار مصارف بعينها، لكنّ مسلسل الانهيارات المصرفية الأميركية عام 2023 لم يبدأ مع SVB، ولم ينتهِ مع Signature، ولم يقتصر على الولايات المتحدة الأميركية، بل انتقل إلى بنك “كريديه سويس” في سويسرا الذي يدير محفظة استثمارية تبلغ قيمتها أكثر من 1.4 تريليون دولار.
يرجح انتشار الانهيارات المصرفية إذاً العوامل الموضوعية في حدوثها، أكثر من العوامل الذاتية لمصارف بعينها، مثل سوء الإدارة وفشل استراتيجيات التأقلم.
يصر الإعلام الاقتصادي الأميركي على أن لا أزمة ولا من يحزنون، وأن الانهيارات ومتاعب القطاع المصرفي المستجدة، مثل تدهور أسعار أسهمها، سببها ذعر المستثمرين فحسب. لكنّ الخسائر لم تقتصر على البنوك الإقليمية في الولايات الأميركية، بل نالت من البنوك الكبيرة أيضاً في العاصمة المصرفية العالمية في وول ستريت في نيويورك.
وبحسب صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية في 16/3/2023، خسرت أسهم أكبر 6 بنوك أميركية 13% من قيمتها بالمتوسط منذ بداية الشهر الجاري، أو ما يعادل 165 مليار دولار، في حين خسر مؤشر أسهم البنوك الإقليمية، مثل Signature، 19% من قيمته في المتوسط خلال الفترة ذاتها.
كما نشرت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية ملخصاً عن دراسة أكاديمية في 17/3/2023 تفيد بأن 186 مؤسسة ائتمانية أميركية مهددة بالانهيار نتيجة سياسة رفع أسعار الفائدة من جهة (عامل موضوعي)، ووجود نسبة عالية من المودعين غير المؤمنة ودائعهم، لأنها تزيد على 250 ألف دولار، من جهة أخرى، الأمر الذي يعرضها للانكشاف إذا اندفع إلى سحبها خوفاً من انهيار المصرف (عامل ذاتي).
قبل إفلاس مصرفي SVB وSignature بأيامٍ معدودة، انهار مصرف يُعَدّ صغيراً في كاليفورنيا، هو مصرف Silvergate، الذي كانت توجد فيه ودائع بقيمة 12 مليار دولار مع نهاية صيف عام 2022، والذي تقلصت ودائعه إلى 3.8 مليارات دولار مع نهاية عام 2022. السبب: انهيار أسعار العملات الإلكترونية الخريف الفائت، وهي تخصُّص مصرف Silvergate الرئيس، فانهارت أسعار أسهمه واندفع المودعون إلى سحب أموالهم منه بكثافة. وفي 8/3/2023، أعلنت تصفية Silvergate رسمياً. فانطفأ النجم الصاعد الذي كان مارك زوكربرغ قد تعاقد معه لإطلاق عملة شركة Meta الإلكترونية ( Libra ثم Diem).
يرتبط انهيار مصرف Signature في 12/3/2023 بانهيار Silvergate قبله بأيام، إذ إن 30% من إيداعاته مع مجيء شباط/فبراير 2023 كانت لشركات ومودعين يتعاملون بالعملات المشفرة. في الآن عينه، بدأ مصرف Signature، الذي بنى سمعته وثروته عبر الأعوام بالاشتغال بالاستثمارت العقارية، تبني سياسة تقليص تعامله مع الشركات المنخرطة في العملات المشفرة، فأخرج 1.5 مليار دولار من إيداعاتها من حساباته، لكنْ بعد فوات الأوان، إذ إن المودعين الكبار بدأوا الانسحاب أيضاً، فجاءت الضربة مزدوجة.
ربما يبدو أن تلك ظروف خاصة ببنوكٍ بعينها لا بالقطاع المصرفي أو الاقتصاد ككل، لكنّ ذلك ليس صحيحاً، لأنه يغفل عن الجانب الموضوعي في المعادلة، جانب السياسة النقدية الانكماشية القائمة على رفع أسعار الفائدة، التي يسلط مثال انهيار مصرف SVB الضوء على دورها بصورةٍ أفضل.
تمارس أغلبية البنوك نشاطات مصرفية متنوعة ومتعددة، لكن البارزة منها تعرف أيضاً بتركيزها على قطاعات محددة. كان مصرف SVB مثلاً يُعَدّ “بنك الشركات الناشئة”، ولا سيما التكنولوجية منها، واختص مصرف Silvergate بالعملات المشفرة… إلخ.
خلال أزمة كورونا، تدفقت إيداعات الشركات الناشئة على مصرف SVB على خلفية سياسة التيسير المالي وطباعة تريليونات من الدولارات وعملة اليورو، والتي وجد بعضها طريقه إلى أسواق الأسهم، بحيث أغدقت الأموال على الشركات الناشئة، وخصوصاً مع ازدياد الطلب على منتوجاتها الرقمية والإلكترونية خلال فترة الحجر؛ أي أن الشركات الناشئة وجدت قنوات لتمويل مشاريعها من دون مراكمة ديون كبيرة للبنوك.
في الآن عينه، وجدت البنوك نفسها تعوم على بحرٍ من الإيداعات. على سبيل المثال، قفزت إيداعات مصرف وادي سيليكون من 61.76 مليار دولار عام 2019 إلى 102 مليار عام 2020، وإلى 189.2 مليار عام 2021. وفي الفترة ذاتها، ارتفعت أصول مصرف Signature من أكثر من 50 مليار دولار عام 2019، إلى أكثر من 118 مليار عام 2021.
لم يبدأ الاقتصاد العالمي التعافي من أزمة كورونا حتى عام 2021، ومن البديهي أن الإقراض لغرض إنشاء مشاريع استثمارية مجدية يرتبط بحالة الاقتصاد. فماذا فعلت البنوك عموماً، في ظل أسعار فائدة صفرية أو ما دون صفرية؟ لقد عززت أصولها بشراء كميات ضخمة من السندات الحكومية وأذونات الخزينة، أي أنها أعادت إقراض الدولة أموالها بفائدة، ريثما ينطلق الاقتصاد، فإذا انطلق عام 2021، عاد القهقرى عام 2022 مع نشوب حرب أوكرانيا وموجة العقوبات على روسيا.
لكنّ انفلات معدلات التضخم عام 2022، وتحول البنوك المركزية إلى رفع أسعار الفائدة لكبحها، دفعا أسعار السندات والأذونات الحكومية، التي اشترتها البنوك سابقاً، إلى الانهيار، لأن ثمة علاقة عكسية بين معدل الفائدة من جهة وأسعار السندات القديمة من جهة أخرى، وهي علاقة سبق أن فصلتُها في الجزء الأخير من مادة “معدلات الفائدة الأميركية كرافعة للهيمنة العالمية: إلى متى؟” (“الميادين نت”، في 10/5/2022).
العبرة أن ذلك يعني انخفاضاً في قيمة أصول البنوك التي استثمرت بكثافة في السندات الحكومية. ومع ذلك، فإن الاحتفاظ بتلك السندات منخفضة العائد في مَحافظ البنوك الاستثمارية ليس بمشكلة كبيرة لولا مشكلة أخرى اسمها توافر السيولة لدى البنك. ومن المعروف أن البنوك تحتفظ بجزء بسيط من إيداعاتها وتستثمر الباقي أو تقرضه، فإذا تعرض المصرف لضغط مفاجئ من المودعين، ليتبين أنه لا يمتلك سيولة نقدية كافية لتغطية السحوبات، فإنه يهز ثقة المودعين به، فإذا انتشر خبر تعثر سيولته ينهار، ولسوف يضطر إلى بيع أصوله سريعاً بخسارة كبيرة ليؤمن السيولة. فإن فعل، فإنه ينكشف من جهة قيمة أصوله وتبدأ أسعار أسهمه تنهار. ولولا تورط المصرف في أصول تنخفض قيمتها مع ارتفاع أسعار الفائدة لكانت سياسة رفع معدلات الفائدة خبراً سعيداً للمصارف لأنها تتيح لها أن ترفع سعر الإقراض وأن تربح أكثر.
هذا هو بالضبط جوهر المشكلة. وفي حالة مصرف SVB، فإنه خسر 1.8 مليار دولار في يوم واحد عندما باع أذونات خزينة بخسارة فادحة لتأمين السيولة، وهو ما زاد المودعين ذعراً، وخصوصاً أن سعر سهمه انخفض 80% في ذلك اليوم، الأمر الذي نتج منه سحب 42 مليار دولار من الإيداعات في يومٍ واحد، فانتهى أمره.
مشكلة السيولة هي أيضاً مشكلة مصرف First Republic الذي كاد ينهار فسارعت مصارف أميركية كبرى لإنقاذه بإيداع 30 مليار دولار فيه.
المشكلة بنيوية إذاً، وهي أزمة منظومة، لكن صدف أن عدة مصارف تنكشف عليها أكثر من غيرها نتيجة ظروف خاصة بها.