انهيارات كبرى وائتلافات أكبر على طريق عالم جديد
موقع العهد الإخباري-
يونس عودة:
تتبلور كل يوم صورة العالم الذي تتجه اليه البشرية، في الوقت الذي تتجه أوروبا المنهكة كدول عانت الكثير في طريق التوحد تحت بيرق واحد، بخطى متسارعة نحو التفكك جراء الانصياع للسياسة والضغط الأميركيين، بعد أن كانت القارة تحلم لا بل تتوقع أن يكون لها جيشها “الجيش الأوروبي” كقوة مستقلة قادرة على التحرك وقت الازمات بمعزل عن الحلف الأطلسي والحماية الأميركية، لا سيما بعد ان خذل الأطلسي والولايات المتحدة الدول الأوروبية خلال الانسحاب الفوضوي للقوات الأمريكية من أفغانستان.
عندما توقع الاتحاد الأوروبي في أيلول من العام الماضي بعد 3 سنوات على اطلاق الفكرة، إنشاء جيش أوروبي مشترك بحلول العام 2022، سارع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ، لتحذير الاتحاد الأوروبي باعتبار إنشاء قوات مسلحة أوروبية مشتركة تحمل خطر إضعاف حلف شمال الأطلسي والخلاف داخل أوروبا.
عندما انسحبت القوات الأميركية من أفغانستان ومن دون مناقشة الحلفاء الأوروبيين بالامر كما ولم تبلغهم حتى بتوقيت المغادرة تلاقت آراء مسؤولين رفيعي المستوى في الاتحاد الأوروبي على أن القوات الأوروبية، كما تَبين، كانت مرتهنة بشكل كامل لقرارات واشنطن في أفغانستان. وهي التجربة الأولى التي تم فيها تطبيق مادة الناتو التي تلزم جميع أعضاء الكتلة بحماية بعضهم البعض. ولم تحصل رغم تخصيص الاتحاد الأوروبي أكثر من 13 مليار يورو للمساعدات الاقتصادية والدعم العسكري للحلف.
رغم تذمر الدول الأوروبية وإدانة كل من لندن وبرلين وباريس وبروكسل في النهاية، الطريقة التي أنهت بها الولايات المتحدة مهمتها في أفغانستان، متجاهلة عمليا المشاورات مع الحلفاء الذين ورطتهم هي في الرمال الأفغانية، الا أن الأوروبيين بأكثريتهم لم يستفيدوا من الدروس. والمثال واضح عندما تقدموا بأرجلهم إلى الشرك الأميركي بتوريطهم في كل خطوات واشنطن تجاه أهم قضيتين في العالم حاليا، أي الملف النووي الإيراني، والعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وصولا الى مرحلة تهديد الاستقرار الذي كانت تنعم به البلاد الأوروبية مع “الديمقراطية”، وهاتان الميزتان يحدق بهما الخطر الجسيم.
تشهد غالبية الدول الأوروبية حاليًا موجات من التظاهرات الرافضة لخضوع السلطات الى التوجيهات الأميركية التي أدت إلى الغلاء الفاحش للسلع مع فقدان الكثير منها، وكذلك ارتفاع أسعار الغاز والمشتقات النفطية التي تعترف سلطات بعض الدول بأن المواطن غير قادر على تغطية نفقاتها الباهظة، بالتوازي مع انخفاض نسب الإنتاج الوطني. وتعتمد السلطات على القمع والملاحقة لكل من ينتقد أداءها بمن فيهم النواب جراء الهستيريا التي نشرتها الولايات المتحدة ضد روسيا، تماما كما فعلت ضد ايران منذ 43 عاما ولا تزال.
مثال صارخ على القمع ما تعرض له البرلماني عضو الائتلاف القومي البولندي، يانوش كوروين ميكي، من عقاب بسبب انتقاده لقوانين العقوبات ضد روسيا، بعدما نشر تغريدتين قال فيهما: “متى ستفهمون أيها الحمقى أن العقوبات ضد روسيا ترتد علينا، وأن من يفرض العقوبات ضد روسيا، إما مخرب، أو خائن، أو أحمق فعلا”، ما دفع أعضاء لجنة الأخلاق في البرلمان بالإجماع لمعاقبته. واعتبر انه يتعرض للاضطهاد بناء على آرائه السياسية.
لا يشذ الوضع في بريطانيا المنسحبة من الاتحاد الأوروبي عما يرزح تحته الاتحاد من خضات سياسية، فالحكومات المركزية تتساقط الواحدة تلو الأخرى، ولا يبدو أن رئيس الحكومة الجديد سيتمكن من حل معضلات المملكة المتحدة على المستويين السياسي والاقتصادي، فاسكتلندا تطالب بالانفصال وتدعو الى استفتاء قريب، وايرلندا الشمالية أيضًا في المسار نفسه، وقد تذهب الأمور الى انتخابات مبكرة تطيح حزب المحافظين بموازاة ما يحصل في أوروبا من سقوط دمى اميركا في الانتخابات، كما حصل في إيطاليا، وكذلك في فرنسا حيث خسر “الماكرونيون” الكثير من المقاعد في الانتخابات التشريعية. هذه الأمور تزيد في احتمالات تسريع الانفصال الأوروبي، وفي هذا السياق كتب كبير مراسلي البيت الأبيض، بيتر بيكر، لصحيفة “نيويورك تايمز” أن الرئيس الأمريكي جو بايدن يواجه التحدي المتمثل في إبقاء التحالف الغربي موحدًا لدعم أوكرانيا، وأن “الوحدة الغربية على حافة الهاوية مع اقتراب الانتخابات النصفية للكونغرس في الولايات المتحدة، والتي تعتمد عليها سياسة واشنطن تجاه أوكرانيا”.
وقالت صحيفة “ناشيونال إنترست” في مقال صحفي إن أستراليا تقوض الوحدة الغربية ضد روسيا، وذلك من خلال رفضها الاعتراف بالقدس الغربية عاصمة لـ”إسرائيل”. وأوضح كاتب المقال مايكل روبين أن مواقف رئيس الوزراء الأسترالي الجديد أنتوني ألبانيز ووزيرة الخارجية بيني وونغ كانت لصالح رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، الذي صرح خلال لقاء مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أستانا بأن الولايات المتحدة غير مؤهلة للتوسط في المفاوضات بين فلسطين و”إسرائيل”.
ليس ما يجري في أوروبا على خلفية العملية العسكرية الروسية إلا جزءًا من المخاض الذي يتفاعل طلق الولادة فيه نحو عالم جديد حيث لا يمكن للغرب أن يتجاهل مصالح الدول الأخرى وقيمها وثقافاتها. وهذا ما اصطدمت به المراوغة الأميركية تجاه الملف النووي الإيراني بعدما وصلت الى طريق مسدود ولم تعد مقنعة ولا مجدية، وانكشفت ألاعيب واشنطن في محاولات دؤوبة للعبث في أمن ايران التي أظهر مفاوضوها حنكة بالغة في تأكيد حق الجمهورية الإسلامية وقوتها، وهو ما شهد عليه الأوروبيون الذين باتوا كالشيطان الاخرس الى جانب الشيطان الوقح والفاجر الذي يريد اهلاكهم في كل مكان ومسألة سياسية كانت أم اقتصادية.
إن انخفاض مقدرة أوروبا في التأثير العالمي بعدما كان الاتحاد الأوروبي مصممًا على السعي إلى مزيد من الاستقلالية في صنع القرار في حالات الأزمات، وتعيين قوته على المسرح العالمي، يعود الى هزالة القيادات في التصدي للازمات ومواجهة سياسة الاملاءات الأميركية بموازاة دول لا تقبل حتى الكلام الذي يمس سيادتها. وهذا ما أظهره الزعيم الصيني في المؤتمر العام للحزب الشيوعي الحاكم شي جين بينغ، حين حشر القوى التي تسعى إلى التقارب مع الغرب في خلفية المشهد، بل وتعرضت لهزيمة ساحقة، حيث شهد العالم كله لقطات إخراج الأمين العام السابق هو جينتاو من قاعة اجتماعات المؤتمر، وهو الذي دعا صراحة إلى تغيير السلطة في الصين واستمرار اندماج المجتمع الصيني في الأجندة الغربية.
لقد دعا جين بينغ للعمل من أجل النصر قائلًا: “يجب أن نستعد لأسوأ سيناريو وأن نصمد في وجه الرياح العاتية والمياه الهائجة وحتى العواصف الخطيرة”. ما يعني الاستعداد الصارم لتحدي الهيمنة الأمريكية العالمية، وخلاصة ذلك تعني أن روسيا وايران لم تعودا وحدهما في واجهة التصدي للغطرسة الأميركية والعمل على تغيير قواعد اللعبة في العالم التي تعاند واشنطن للاستئثار بها كزعيمة للدول الاستعمارية – الامبريالية.
لا تقتصر نتائج المخاض العالمي اليوم على فئة أو قومية أو دولة أو أمة بحد ذاتها، وانما كل سكان كوكب الأرض بما يعنيهم من عالم يردع الهيمنة السياسية ولصوص الاقتصاد والقتلة، وهذا لا يكون إلا بعالم متعدد الأقطاب تتجه البشرية إليه بخطى ثابتة رغم العناء والمعاناة.