الوطن والشعب أغلى من السلطة والمال؟
جريدة البناء اللبنانية-
علي بدر الدين:
رحيل سنة وولادة أخرى، لن يضفيا أمراً جديداً أو حتى إيجابية واحدة على المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمعيشي والصحي المعقد والمأزوم في لبنان، ولن يحدثا فيه خرقاً أو فرقاً أو تغييراً ولو بسيطاً في حاضره، حيث يتواصل انحداره وانزلاقه إلى المجهول الأسوأ والمدمّر على كلّ المستويات، وتزداد معهما وتيرة الانهيارات التي تتوالى من دون أيّ فعل او اية عوائق قد تحول دون تمدّدها، أو تحدّ من تداعياتها الخطيرة جداً، والتي لا يمكن إخفاءها التستر عليها وطمسها والتلطي خلفها، بذرائع ومبرّرات ومواقف سياسية وخطابات طائفية ومذهبية عالية السقف والنبرة، كالتي يسمعها الشعب اللبناني في هذه الأيام الاستباقية للانتخابات النيابية الموعودة، التي بدل أن «تكحل» الأوضاع الاقتصادية والمالية والاجتماعية، تساهم في تفاقمها بتحريك مياهها السياسية والسلطوية الراكدة والمجمّدة، من دون اعتبار لحال الناس الذين يصرخون ويئنّون من الفقر والجوع والبطالة والوجع اليومي، وفي ظلّ تحليق سعر صرف الدولار مقابل العملة الوطنية التي انهارت تماماً ولم تعد تساوي شيئاً.
من حق الشعب ان يحمّل الطبقة السياسية والمالية مسؤولية ما يحصل، وأن يتهمها بالعلن، أنها تفتعل تصعيد مواقفها، ورفع سقف مشاكلها وخلافاتها الوهمية منها او «الجدية» لأنها عن سابق إصرار وخبث، تريد فعلاً الهاءه وصرف نظره، لـ «يخلو» لها المسرح لممارسة هوايتها المفضلة، وهي التلاعب بالدولار وشرعنة سرقة أرزاقه ولقمة عيشه، ولجني المزيد من المكاسب والأرباح على حسابه، وهو الذي لا يزال أسيراً لتبعيته وارتهانه الطائفي والمذهبي والمناطقي، ويقف مكتوف الأيدي ومربوط اللسان ومقيّد بالغرائز والعصبيات التي سلبته إرادته وحريته، وجرّدته من كلّ حقوقه، لا خيار لديه سوى التفرّج على المسرحية عن بعد والتصفيق لمن يعتقدهم أولياء نعمته وعلة وجوده ومعيشته، وكأن الأمر لا يعنيه، وكأنه ليس هو المستهدف ومن دفع ولا يزال الأثمان عالية الكلفة، التي ينوء تحتها من دون حراك، مستسلماً لغريمته المتمثلة بالمنظومة السياسية بكلّ مكوّناتها.
العام الجديد حلّ ضيفاً ثقيلاً مشبعاً بالأزمات والمشكلات، والتعقيدات والصراعات السياسية والطائفية والمذهبية والسلطوية وهذا ما لا يمكن لأحد إنكاره، ولكن أسوأ ما فيه، أنه نقل معه الطبقة السياسية والمالية ذاتها منذ ثلاثة عقود متتالية ونيّف، بكلّ فسادها وتحاصصها وصراعاتها واختلافاتها وجشعها وأزلامها وأطماعها وسلوكياتها البشعة، كأنها قدر مفروض على الشعب، وهي عملياً كابوس مخيف وخطير وقاتل، بالأدلة والبراهين والتجارب البعيدة والقريبة، وبوجودها واستمرار تسلطها، لا معنى أو جدوى من كلّ الأمنيات والتمنيات والرغبات بأن يكون العام الجديد افضل من الذي سبقه، لأن لا شيء تغيّر، وليس هناك مؤشرات ولا معطيات، توحي مثلاً، بأنّ الحكومة ستعاود عقد جلساتها، ولا أنّ المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت سيغيّر مساره، ولا جنون سعر صرف الدولار سيدخله الى «المصح العقلي» ولا «مافيات» السلطة والمال والفساد، ولا تجار الجشع والطمع والاحتكار والسوق السوداء سيتراجعون عن احتكارهم ويرأفون بالبلاد والعباد، ولا الدولة بمؤسساتها وأجهزتها وسلطاتها وإداراتها قادرة على إعادة فرض هيبتها واستعادة إمساكها بزمام الأمور وتطبيق الأنظمة والقوانين المرعية الإجراء، لضبط الأوضاع وحماية ما تبقى من بشر وشجر وحجر، لأنها تأخرت وساهمت بانفلات» الملق» وقد نخرها سوس العجز والشلل، وتحوّلت عن قصد او من دونه الى شريكة ومتواطئة، والشعب هو الشعب على حاله، بلا حراك وبلا صوت، وفي غيبوبة تامة، لا حول له ولا قوة ولا عمل ولا إرادة، وشعارات التغيير والإصلاح والمحاسبة ضاعت وفقدت من سوق عكاظ الإعلام والسياسة والمتاجرة.
الأسوأ أنّ معظم هذا الشعب المسكين، الذي فقد كلّ شيء، حتى أصبحت حياته واقفة على «شوار» «كف عفريت» الاحتضار جوعاً أومرضاً، تسمّر ليلة «رأس السنة» أمام شاشات التلفاز، ليستمع بشغف وشوق إلى ما سيقوله المنجمون والفلكيون والمبصّرون الذين يتكاثرون كالفطر كما الخبراء والمحللون الاستراتيجيون والسياسيون والاقتصاديون والماليون الذين «طمأنوا» الشعب أنّ العام الحالي سيكون أسوأ من الذي سبقه، وانّ سعر صرف الدولار سيرتفع حتى يبلغ الخمسين ألفاً، وصدقوا بما توقعوا (كذب المنجمون ولو صدقوا) لأنهم يعملون سماسرة عند السلطة والمتاجرين بالدولار الذي يحلق سعر صرفه كلّ يوم.
بئس شعب يرضى بكلّ هذا الذلّ والإهانة والظلم والاستبداد والفساد والتحاصص والفقر، وينتظر مثل هؤلاء لمعرفة مصيره، وماذا سيحلّ به وبعملة وطنه، مع انه يمتلك مفاتيح الحلّ والتغيير إذا قرّر وأراد، والفرصة متاحة أمامه في الانتخابات النيابية بعد ان فشل بالنزول إلى الشارع.
يقول تشي غيفارا «إذا استطعت أن تقنع الذبابة بأنّ الزهور أفضل من القمامة، حينها تستطيع أن تقنع الخونة بأنّ الوطن أغلى من المال»!
على الطبقة السياسية أن تكون رحيمة مع شعبها، كما فعل كبير اللصوص في العصر العباسي دهم بن عسقلة، حيث ترك وصية قبل وفاته لأتباعه من السارقين والحرامية كتب فيها « لا تسرقوا إمرأة ولا جاراً ولا نبيلاً ولا فقيراً، وإذا سرقتم بيتاً، فأسرقوا نصفه واتركوا النصف الآخر ليعتاش عليه أهله، ولا تكونوا مع الأنذال». ولكنهم لم يلتزموا بالوصية منذ ذلك التاريخ حتى اليوم…
فهمكم بكفاية، واللبيب من الإشارة يفهم.