الوطن المذبوح بين صمت العسكريين وألسنة السياسيين
صحيفة الخليج الإماراتية ـ
نسيم الخوري:
بكلمتين كي نبدأ: اللبنانيون يشعرون كلّهم وكأنّ معظم السياسيين يمدّون أيديهم الى جيوبنا وأعناق أولادنا ونحن واقفون متأهبين للنشيد الوطني اللبناني لنصرة الجيش. أنا لا أكتب نصّاً بل أذبح نصّاً!
منذ سبعة عقود ونحن نقرأ أو نسمع أو نشاهد معظم السياسيين اللبنانيين، ينتقدون أموراً على تماس مباشر أو غير مباشر بالعسكر. تخفّ حدّة الإنتقادات أو تشتدّ تبعاً للظروف والتشابكات السياسية والإستحقاقات الوطنية أمام صمت شبه مطبق من المجتمع العسكري. مفارقة صعبة في بلد مثل لبنانMédia state يعتبر رقعة من الحريات غير المضبوطة في تعدديات إعلامية وسياسية يصعب حصرها. وبين ألسنة السياسيين الكثيرة المسنونة والمسلولة والتي لا تنام أو ترتاح وألسنة الجيش والعسكر المبلوعة والمتكوّمة في الصمت المطبق العميق يلتقط المراقب تراكمات من الشحن والتوجّس والقهر والظلامية والتباين بين السياسيين والمواطنين في التطلّع الى الزي العسكري. يقوى التباين والمخاطر تقرع الأبواب، وصور الرعب والذبح التي طاولت الجيش تقوى وتشتدّ. للتذكير،هذا اللباس المرقّط أصلاً هو من مستلزمات إظهار السلطة الوطنية العامة، تماماً كما الزي الديني هو من مستلزمات سلطات رجال الدين وهم يطلون علينا واعظين في الهياكل والجوامع والحسينيات كما يحلو لهم، وهو أيضاً من مستلزمات السلطات القضائية والقانونية في قصور العدل. العدل؟؟؟، كما هو من مستلزمات “السلطات” التربوية(صارت بين قوسين) في أثناء إلقاء المحاضرات ومنح الشهادات في الجامعات. لكلّ سلطة لباسها. لكنّ غالبية اللبنانيين اليوم يتهيّبون تلك المرحلة الخطيرة يضاعفها الشطط السياسي والإعلامي في موضوع الجيش وأجهزة الأمن وصلاحياتها ومنحها الأغطية السياسية اللازمة للتحرّك والتفاوض والقتال وتخليص المخطوفين وضمان إستقرار لبنان. ماذا العمل فالجيش يخضع خضوعاً تاماً للسلطات السياسية كما جاء في دستور الطائف، تأديباً دولياً تاريخياً لنبرة الجنرال ميشال عون في لحظة وطنية قال فيها :لا.
وهنا نتساءل:
لماذا يخرّون وهم يصافحون رجال السلطات الدينية، أو يتعقبون أهل السلطة القضائية والجامعية ليل نهار من أجل إطلاق موقوف أو إنجاح طالب أو تسجيله تجاوزاً لكلّ القوانين في جامعة ما، ويتبرّمون أو يسلّون ألسنتهم وسهامهم عند تغطية الجيش أو يختلفون مع أنّه مركز الإنضباط بمعنى النظام والتضحية والترتيب أو يتناولونه مباشرة أو بشكل غير مباشرفي الأحاديث وفي وسائل الإعلام، فلا يسلم كلّ ما ينتسب إليه؟ هل الجيش لحماية المؤسسات والشخصيات وللتخليص من كوارث الثلوج؟
العيون والمصالح كلّها على كرسي بعبدا؟ جيّد، ومع ذلك لماذا هذا الصراع التاريخي بين الصمت العسكري الكثير والكلام السياسي والإعلامي الكثير الكثير المبالغ فيه في لبنان المهدّد اليوم؟ ما هذا الغموض ولماذا عدم القدرة على الفكاك بين البصمات العسكرية والبصمات السياسية في تاريخ لبنان؟ لماذا يتناول بعض سياسيينا بالنقد العلني وبالتناوب الزي الأخضر بينما ينادي معظم اللبنانيين مرتدينه ب:” يا وطن” وهي، كما يبدو بوضوح، مناداة صادقة وعفوية من الشعب اللبناني لا يجوز شطب مدلولاتها الغنية ومفاعيلها الوطنية ، فالحس الشعبي يتجاوز أحياناً الحس السياسي.
نقدم هذه التساؤلات لا لنزيل ذاك الغموض بل لنضعه في دائرة الضوء من حيث أنّه مسألة تعني كلّ اللبنانيين وهي من الأولويات في تعزيز البناء الوطني الذي يفترض بدايةً تقريب “الساحة اللبنانية” من الوطن المسيّج والتخفيف من غلواء السياسيين وتحاملهم على الوطن والإلتفاف والتقرب أكثر من فهم المخاطر المحدقة بنا كما بالعرب جميعاً وكسر حدّة الصمت فيه، خصوصاً وأنّ في التاريخ العربي والعالمي أمثلة محفورة في الذاكرات الوطنية وساطعة للأدوار التاريخية التي رسّختها البصمات العسكرية في نهضة الأوطان وحمايتها.
في ضوء هذا الواقع المر، والإشكالية المزمنة نتساءل كيف نقرأ أو نعلّم أولادنا في لبنان حيث فشلنا حتى الآن في وضع كتاب تاريخ واحد، أوكيف نستمرّ نعلمهم ونقنعهم ونحفّظهم في كتبنا وكراريسنا بأنّ الإسكندر المقدوني” ذو القرنين” هو ضابط عصر أرسطو كتاباً يختصر الفكر اليوناني وحمله علماً يبشّر به في بلاد فارس والعالم؟ أليس الفكر اليوناني كلّه الذي نجده مقيماً في جامعات العالم على صلة بتلك المهابة التي كانت اليونان تمنحها للتربية العسكرية والبدنية لأبنائها من أجل عظمة اليونانيين كأمة في التاريخ ؟ ألم نؤرّخ لأجيالنا ونعلّمها أنّ عصر النهضة العربية في العام 1789 بدأ مع دخول الضابط نابليون بونابرت الى مصر وقد تناول الحرف المطبوع من حاضرة الفاتيكان وزرعه مطبعةً أولى في بولاق؟ ومع دعوتنا للتصويب، فإنّ نابليون جاء قاعداً فوق “عصر الأنوار” ومستلهماً له في بناء الأمّة الفرنسية. وقد درجت النصوص العربية في زمن”الربيع العربي” المهيض من إستعمال إسمه كضابط ثار للهوية في حلّتها التي لا آثار لها في نسيج “ثورات” العرب المستوردة الأخيرة. وماذا نقول عن تاريخ شارل ديغول الضابط الفرنسي الذي أرسى فرنسا الحرّة وعمم فكرها في العالم، فاستحال إخراجه من الحديث والأدبيات؟ ماذا عن الضابط ايزنهاور الأميركي الذي أخرج بلاده بشكل واسع نحو العالم، وكان الواضع الأول مع ضباطه لبذرة العولمة والأنترنت التي وصلتنا بعد أربعين سنة من إخراجها هناك من تحت أقبية البنتاغون الحافل بأسرار الدول المسموح بها بالطبع؟ أليست السياسة الأميركية منذ أيزنهاور هي القائلة بأن أي رئيس لن يدرك مكانته، ولا يكتمل تاريخه إلاّ بإعلان نهجه العسكري الخاص وإشاعة الأفكار الأميركية في العالم؟ ماذا عن ماوتسي تونغ وجوزف ستالين وجوزف تيتو وأروين رومل وغيرهم كثر؟
ماذا عن الضابط المصري جمال عبد الناصر الذي دمغ الأحلام العربية بنبرته في الوحدة والقوة العربية ونراه اليوم شاغلاً مواقع ال you tube وفي أحلام الكثيرين من الحالمين بالتغيير والرسوخ في العروبة والوحدة القومية؟ ماذا عن الضابط الطيّار حافظ الأسد الذي يدعو اللبنانيين اليوم من حيث هو للتعاضد في وجه السكاكين الملثمة بالإسلام التي تملأ وجه الشرق؟
طبعاً قد يستوعب المرء الحكم العسكري الذي باتت تنظّر إليه بعض النخب العربيّة بعدما أعيتها تجارب “الثورات المستوردة المستورة” وفاجأتها بتداعياتها التكفيرية ومظاهرها التدميرية للإسلام والمسلمين كما للعرب والعروبة، لكنني من المؤشّرين الى دور الجيوش المحوري في بناء الأوطان، ومن المذكّرين بتجربة الجنرال فؤاد شهاب في حكم لبنان وتجربة العماد ميشال عون الرئاسية التي ما اكتملت في حينها(1989) ويظهر إكتمالها صعباً اليوم مع الفراغ الرئاسي، وهو لم يتردّد في الإجابة على سؤال حول أكثر الألقاب تحبّباً إليه حتّى ولو وصل رئيساً الى قصر بعبدا إذ قال: أحبّ أن ينادونني بالجنرال. يضاف إليهما تجربتي العماد إميل لحود وميشال سليمان من بعده، وهذه كلّها تجارب لم ولن ترضي السياسة التقليدية في لبنان التي تفصل بين صفات المؤسسة العسكرية التي يمكن أن يعرف المنخرط فيها منضبطاً أين يبدأ وأين ينتهي وما هي حقوقه وما هي واجباته مع أنّ الكفّة الثانية، في واقع الأمر، أي الواجبات هي أرجح من الكفّة الأولى وبين الصفات الرئاسية إذ يخلع ضابط بذّته ليشغل قصر بعبدا.
صدّقوني إنّنا في خضم زمن أكثر من خطير يطمح فيه كلّ لبناني أن ينادونه بإسمه الجديد: يا وطن قبل أن………………… إملأوا الفراغ بالكلمات المناسبة.