الهوية الأفريقية في خطر
صحيفة البعث السورية-
محمد نادر العمري:
عادة ما يشير مفهوم الهوية الوطنية أو القومية إلى مجموعة متكاملة من السمات والخصائص التي تميّز كل أمة أو وطن، ومن دونها تفقد الأمة أو الوطن أي معنى لوجودهما، بل يجمع المفكرون على أنه من دون التمتّع بسمات الهوية لا معنى لوجود أي كيان، لذلك فإن الهوية الوطنية هي السمات المجتمعية التي يملكها الفرد تبعاً للمجتمع الذي يعيش فيه وينتمي إليه، وقد لا تكون هذه السمات من اختيار الفرد ذاته، بل قد تمثل في مقوماتها الثابتة والمتغيّرة موروثات لم يخترها الفرد ولم تكن اختياراته الطوعية.
وعلى ذلك فإن الناظر لواقع القارة السمراء، ذات الحضارات القديمة والمتعدّدة، يجد أنها باتت تفقد الكثير من مقومات هوياتها، سواء على مستوى الدول أو المجموع الكلي، ويعود ذلك إلى مجموعة من العوامل والأسباب:
الموروثات الاستعمارية التي ما زالت تشكل مفاعيل الحياة لدى الكثير من الدول الأفريقية، ولعلّ أبرز صور وتعبيرات هذه الموروثات استمرار الاعتماد على لغة الإمبراطوريات المستعمرة، وتعتبر اللغتان الفرنسية والبرتغالية أكثر اللغات استخداماً من قبل معظم الدول الأفريقية، وهو ما سعت لتكريسه الدول المستعمرة عندما كانت تحتل هذه الدول، انطلاقاً من اعتقادها وفق رؤية مفكري عصر النهضة أن اللغة تعدّ من أبرز مقومات الهوية الثابتة واستمرار استخدام لغة الدول المستعمرة، وهذا يعني استمرار ارتباط هوية الدول الأفريقية بالدول الأم وارتباطها بها ثقافياً، وهو الأمر الذي تفادته الجزائر بشكل كبير على عكس تونس على سبيل المثال لا الحصر.
من المعروف أن القارة الأفريقية على مستوى الدول أو المستوى الكلي، هي من أكثر الرقع الجغرافية الأممية التي تقوم على الطابع العشائري والإثني، لذلك تغلب الصراعات العرقية والعشائرية على معظم النزاعات المحتدمة في عمق هذه القارة، والتي تتغذى من دول مجاورة بحكم امتداد العرق أو العشيرة، أو من قبل الدول المستعمرة قديماً والدول الكبرى الحديثة كالولايات المتحدة الأمريكية، نظراً لما تشكله هذه الصراعات من وسائل تمكّن الدول من التدخل في الشؤون الداخلية لمعظم الدول الأفريقية.
صحيح أن القارة الأفريقية تعتبر من أغنى القارات العالمية نتيجة غناها بموارد باطنية وطبيعية وبشرية، إلا أن شرائح واسعة من دولها تعاني من فقر مفجع يصل حدّ المجاعات والحرمان، وهو ما يدفع الفقراء للبحث عن أي وسيلة تحسّن مستوى معيشتهم وتشكل مصدر رزق لهم، بما في ذلك التحول إلى مقاتلين مرتزقة يكون ولاؤهم لمن يدفع أكثر.
التنافس الدولي الذي تشهده القارة السمراء نتيجة ما تتمتّع به هذه القارة من مورد كبير للموارد الأولية وسوق كبيرة للتسويق، فضلاً عن أهميتها الجغرافية التي تتوسط الجغرافية الكروية للعالم، وتتضمن أهم وأبرز الممرات الدولية المطلة على البحر الأحمر شرقاً، والمتوسط شمالاً، والأطلس في الغرب، والهندي في الجنوب الغربي، وهذا التنافس لم يقتصر على النفوذ والتحالف، بل اتخذ أشكالاً متعددة، بما في ذلك نهب حضارة هذه الدول أو تغييبها مقابل الغزو الثقافي الذي مارسته الكثير من الدول المتنافسة، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية والنظام التركي والكيان الصهيوني، حتى أن هذا التنافس دعم الحركات الانفصالية وعزّز النزاعات لتعزيز التفرقة والاقتتال كما حصل سابقاً في تقسيم السودان، وما يحصل اليوم من نزاع إثيوبي سوداني مصري بشأن نهر النيل.
لذلك هناك شرخ حقيقي في الهوية الكلية للقارة الأفريقية، وهو انعكاس واقعي لأزمة الهويات الوطنية التي تعاني منها دول القارة التي تمتلك أقدم وأهم الحضارات في تاريخ البشرية، وهذه الحضارات لا تقتصر فقط على حضارة وادي النيل المتمثلة بالفراعنة، بل هناك حضارة النوق، والإمبراطورية القرطاجية، وحضارة سونغاي، ومملكة أوكسوم، وجميعها قدّمت صورة متقدمة عن الحضارات القديمة.