الهدنة في سوريا وآمال التوصل إلى حل للأزمة
موقع روسيا اليوم:
في الهزيع الأخير من ليلة الخميس – صباح الجمعة الأخيرة من عام 2016 -، دخلت سوريا مرحلة جديدة بموجب اتفاق لوقف شامل لإطلاق النار على جميع أراضي البلاد.
وقد وقعت الحكومة السورية الاتفاق مع سبع من فصائل المعارضة المسلحة برعاية روسية–تركية، والذي يستثنى منه تنظيما “داعش” و “جبهة النصرة”، المصنفان وفقا لقرارات مجلس الأمن الدولي منظمتين إرهابيتين. وقد أشاع الإعلان عن دخول الاتفاق حيز التنفيذ أجواء من الارتياح لدى أوساط المجتمع السوري، الذي كان يترقب أي بارقة أمل كهذه يمكن لها أن تؤسس لمرحلة مغايرة لسنوات الحرب، التي قاربت أعواما ستة، وأتت على مقدرات البلاد والعباد، وفتحت أبواب المآلات الصعبة جميعها أمام مستقبلهم الذي اكتنفه الكثير من الغموض. ومع اتساع رقعة الآمال، فإن التوجس من حدوث انتكاسات من شأنها تعريض هذا الاتفاق لمخاطر الإلغاء لم ينتف بشكل كامل قياسا بتجارب سابقة خلال شهري شباط/فبراير وأيلول/سبتمبر المنصرمين؛ حين تم الإعلان عن أكثر من هدنة خلالهما ما لبثت أن سقطت تحت وقع السلاح وأجندات اللاعبين، لكن المناخ السياسي الخاص إقليميا ودوليا ومحليا، الذي أسهم في إنتاج هذا الاتفاق بمضامينه الثلاثة عسكريا وسياسيا ومراقبة، يجعل القراءة الأولية له أكثر قابلية للميل نحو إمكانية السير وفق مضامينه نحو آفاق قد تكون رحبة شرط التزام الجميع بإرادة سياسية تنبع من المصالح الاستراتيجية المشتركة كما تجلت في التفاهم التركي-الروسي. ومن بين المقومات التي تدفع نحو هذا الميل عدة وقائع لم يعد بالإمكان تجاوزها أو حتى القفز فوقها.
فروسيا، التي حشدت طاقاتها الدبلوماسية والسياسية بالتزامن مع حضورها العسكري على الأرض السورية، وضعت نصب أعينها هدفا استراتيجيا لحل الأزمة السورية عبر الوسائل السياسية من جهة، وعبر الإسهام في مكافحة الإرهاب على الأرض السورية، الذي تفشى بوجود تنظيمي “داعش” و”جبهة فتح الشام” (النصرة سابقاً) من جهة أخرى. وكان ذلك يتطلب البحث مع جميع اللاعبين المحليين والإقليميين عن سبل تفضي إلى قواسم مشتركة مع الجميع لبلورة اتفاق يكون بمنزلة أرضية للانطلاق عبر الفضاء الدبلوماسي لتلمس مسارات الحل السياسي، وربما شكلت الانتكاسات العديدة لجهود موسكو مع واشنطن بهذا الصدد رافعة للدبلوماسية الروسية، مكنتها من التقاط لحظة تاريخية في العلاقات مع تركيا، التي تعدُّ أبرز وأهم حاضنة للمعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري. يضاف إلى ذلك طبيعة العلاقات الروسية-الإيرانية، التي أسهمت إلى حد كبير في الدفع باتجاه العمل المشترك من أجل بلورة هذا الاتفاق، تمهيدا للمسار السياسي. وبما أن إيران طرف رئيس في هذا الاشتباك الميداني والسياسي على الأرض السورية، فقد منح ذلك قوة دفع إضافية لمجمل تلك الجهود.
في ضوء مضامين اتفاق وقف إطلاق النار الشامل والضمانات المعلنة من الراعيين الروسي والتركي بوجوب التزام طرفي الصراع الحكومي والمعارض بتنفيذه، بدا واضحا أن طرفي الصراع أعربا عن الاستعداد الصريح للالتزام به وبتنفيذه وصولا إلى مرحلة الحوار السياسي المنشود والمزمع انعقاده قريبا في العاصمة الكازاخستانية أستانا؛ ما يطرح أسئلة عديدة عن احتمال تأثير لاعبين آخرين وأطراف أخرى منخرطة في الصراع السوري مثل السعودية وقطر مثلا. وعلى الرغم من ترحيب واشنطن بالاتفاق ووصفه بالخطوة الإيجابية، فإن ذلك لا ينفي احتمال قيام واشنطن بالتشويش على مجرياته ومخرجاته على حد سواء في ضوء تجارب سابقة تنصلت فيها الإدارة الأمريكية المنتهية ولايتها من التزامات محددة توصلت إليها مع موسكو بشأن الأزمة السورية.
ولكن هذه الأطراف تبدو، في قراءة متأنية للواقع المستجد في هذا المشهد، أقل قدرة على التأثير السلبي الشامل على الاتفاق ومضامينه. فبالنسبة إلى السعودية، لا تبدو اليوم في وضع يجعلها تملك الوسائل المؤثرة على المشهد السوري كما كانت عليه في السابق أي قبل تورطها في حرب اليمن أولا والتداعيات الاقتصادية المترتبة على ذلك، وثانيا الأزمة الاقتصادية التي تمر بها عموم دول النفط الخليجي ومنها السعودية. ذلك، إضافة إلى عامل آخر لا يمكن التغاضي عنه، والذي يتمثل بالتنافس التاريخي بينها وبين قطر سواء بسبب تناقض سياسات كل منهما أو تعارض الانتماء المذهبي السعودي السلفي مع الخيار القطري المتمثل باحتضان تنظيم “الإخوان المسلمون” بجميع فروعه؛ ما يجعل إمكان التعطيل للاتفاق ومساره أقل تأثيرا.
لكن ذلك لا يمثل سوى جزء من الإطار العام في حين تبقى بيضة القبان، في هذا التأثير في السعودية وقطر على حد سواء، بيد تركيا أحد الضامنين الاثنين للاتفاق. والمقصود أن انخراط قطر والسعودية في الأزمة السورية تمثَّل بمليارات الدولار وشراء الأسلحة لفصائل المعارضة، فضلا عن الدعم الاعلامي والسياسي، لكن كل ذلك ما كان مجديا لولا سياسة الحدود المفتوحة التي اتبعتها أنقرة تجاه تغذية الأزمة السورية وتأجيجها. واليوم. وبما أن أنقرة أبدت التزاما عمليا بوقف هذه السياسة، فستؤثر حتما في خيارات السعودية وقطر في هذا الاتجاه، وإن بشكل متفاوت، نظرا إلى طبيعة العلاقات القطرية-التركية الراسخة بالقاسم المشترك الأكبر المتمثل برعاية الإسلام السياسي عموما وجماعات “الإخوان المسلمون” بشكل خاص.
لعل من المبكر الجزم بوصول قطار السلام عبر اتفاق وقف إطلاق النار الشامل في سوريا إلى محطته المأمولة، ولكن نظرا إلى الكثير من المعطيات الراهنة والتحول الملموس في مزاج اللاعبين، على كثرتهم، باتجاه خيارات ومساراتٍ تقلِّص وقد تُوقف عملية الاستنزاف البشري والمادي والسياسي، فإن كل ذلك يوحي، ولو بالحد الأدنى، بأن المحاولة الجديدة يمكن أن تشق طريقها رغم المطبات الكثيرة.