الهدنة.. حقائق ومآلات
صحيفة الوطن السورية-
عبد المنعم علي عيسى:
قبيل أيام من يوم الجمعة 24 تشرين الثاني الجاري كان «الوسيطان» القطري والمصري قد عرضا على «حكومة الحرب» في تل أبيب اتفاقاً قد لا يختلف على الإطلاق في شيء عن ذاك الذي قبلت به هذه الأخيرة يوم الخميس الذي سبق يوم الإعلان عن سريان الهدنة، لكن حكومة الحرب، في حينها، رفضت مسودة الاتفاق، قبيل أن تضيف: إن الحرب ماضية ومستمرة حتى بلوغ أهدافها التي أعلنت لحظة انطلاقها، وبمعنى آخر حتى «استعادة كل الأسرى» و«القضاء على البنية العسكرية لحماس» وصولاً إلى تفكيكها وغيابها عن المشهد الفلسطيني تماما بذريعة أنها، أي حماس، لا تمثل الشعب الفلسطيني، والذريعة وحدها تمثل إشكالية كبرى في التفكير الإسرائيلي، والغربي عموماً، الذي كان ينظر إلى كل تنظيم، أو حزب أو شخص، على أنه لا يمثل البيئة التي خرج منها في حال كانت سياساته أو برامجه من النوع المعادي، أو المقاوم، للمشاريع التي ينتهجها الاثنان والتي يمكن القول إنها منصهرة في سياق واحد حتى لا يظهر الفارق بين الاثنين تقريباً، وبهذه المقاييس أضحى الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات، مثلاً، هو الممثل الشرعي الوحيد للشعب المصري شهر أيلول 1977 مع أنه لم يكن كذلك، بنظر هؤلاء، شهر تشرين الأول 1973.
لا شك في أن تغير الموقفين الأميركي والإسرائيلي المنصهرين الآن تماماً، مع تسجيل بعض «التلون» في الأول مرده لاعتبارات خاصة تفرضها القيادة الأميركية لـ«العالم الحر»، من الرفض إلى القبول في غضون أيام لا تزيد على الخمسة، ناجم بالدرجة الأولى عن لمس دقيق لانزياح في موازين القوى باتجاه حركة «المقاومة الإسلامية» في غزة، ونحن هنا لا نريد القول إن ميزان القوى العسكري قد مال باتجاه هذه الأخيرة، ما يجعل القول غير واقعي انطلاقا من الفوارق الكبرى بين طرفي الصراع في المعدات والتسليح والعدد والتنظيم، لكن الثابت هو أن ميزان القوى، في أي صراع، لا يتحدد فقط عبر هذه المعطيات وحدها وإن كانت الأخيرة عاملاً له اليد الطولى فيها.
يمكن القول إن هناك عوامل عدة فعلت فعلها في ذلك «الانزياح» أبرزها إخفاق الحرب البرية في تحقيق مراميها بعد مرور 46 يوماً على انطلاقتها، وفيها ألقت الطائرات الإسرائيلية 40 ألف طن من المتفجرات على منطقة جغرافية محدودة من دون أن يؤدي الفعل إلى انكسار المقاومة أو انفصال العرى التي تصلها بنسيجها الاجتماعي الحاضن لها، ومنها أيضاً مناخ دولي راح يبلور، على وقع ممارسة أعلى درجات القتل والوحشية، رأياً عاماً ضاغطاً استطاع في مراحله الأخيرة حشر إدارة الرئيس جو بايدن في زوايا ضيقة فرضت بدورها تغييراً في النهج والسياسات وإن ظل جوهرها على حاله، ثم كان هناك جبهات أخرى ثلاث في العراق ولبنان واليمن راحت تؤدي فعلاً إسنادياً محكوماً بقدرات معينة وكذا بظروف وحسابات تبدو شديدة التعقيد، وهي، أي تلك الجبهات، راحت تهدد بانفلاتها عن الضوابط التي بدا صانع القرار فيها ملتزماً بها تبعاً للظروف والحسابات الآنفة الذكر، ومن المؤكد أن هذه العوامل الثلاثة أضحت داخل الحسابات التي بات لزاماً على واشنطن وتل أبيب أخذها بعين الاعتبار في صراع بدا للمرة الأولى أنه غير خاضع، فحسب، لموازين القدرة على القتل والتشريد والتدمير وخصوصاً أن المستهدف بدا على استعداد تام لتحمل المزيد منها ما يشير إلى أن حالة الاستعداد تلك كان قد جرى العمل عليها في غضون الأعوام التي تلت عدوان 2014 على غزة وأنها كانت في صلب حسابات صانع القرار لدى حماس قبيل الإعلان عن عملية «طوفان الأقصى» فجر 7 تشرين الأول المنصرم.
من دون شك يمكن الجزم بأن حماس استطاعت ربح المعركة الإعلامية التي خيضت ضدها بهدف «دعشنتها» وهي المعركة التي كانت قد انطلقت مع زيارة جو بايدن للأراضي المحتلة بعد أيام على «الطوفان»، ومن ثم جهدت للاستثمار فيها ضمن سياقات الهدنة والإفراج عن الأسرى، التي أظهرت نمطاً لديها لا يرقى إليه الكثير من الكيانات والدول، ولهذا أثر سيكون إيجابياً في سياق الجهود المبذولة لتمديد الهدنة وإن كان من دون الفعل معوقات كبرى أبرزها حالة «الاحتياج» الإسرائيلية التي تتعارض مع تلك النمطية والجهود، مع تسجيل إشارة إلى أن حالة «الاحتياج» تلك لا تبدو طليقة الحركة كما كانت عليه عشية الأيام الأولى للحرب، فها هي «واشنطن بوست» تنقل عن مسؤولين إسرائيليين يوم 26 تشرين الثاني، أي في اليوم الثالث للهدنة، قولهم إن بايدن «اتخذ نهجاً أكثر صرامة تجاه إسرائيل سراً وعلناً خلال الأسابيع الأخيرة».
في المآلات تبدو فرص التمديد للهدنة متوازنة مع فرص العودة للحرب، ولعل ترجيح إحداهما على الأخرى سيكون رهيناً بالمدى الذي ستذهب إليه جهود الوساطة ثم الضغوط الأميركية التي باتت محكومة بارتفاع مناسيبها قياسا لما ألحقته الحرب على غزة بصورة الولايات المتحدة وفقاً لتصريحات صادرة عن البيت الأبيض، لكن ثمة حسابات داخلية لها علاقة بطرفي الصراع سيكون لها اليد الطولى في هذا السياق، فالهدن غالباً ما تكون فرصة لمراجعة الحسابات تلك المتعلقة بموازين القوى بطيفها الواسع المذكور أعلاه وماهية المتغيرات الحاصلة عليه، ثم وقفة لمراجعة الإستراتيجيات ومدى واقعية المتبنى منها قبل سريان الهدنة.
مثل مراجعات كهذه قد ترجح تمديداً للهدنة أو استمراراً للفعل العسكري على أن تعقبه حتماً هدنة أخرى، ولربما يتكرر الأمر مرات قبيل أن تصل الأمور إلى خواتيمها التي لا مناص من الإقرار بها.