النيجر بين الولايات المتحدة وفرنسا.. براغماتية وتباعد استراتيجيّ حتميّ
موقع قناة الميادين-
وسام إسماعيل:
يمكن التقدير أن الموقف الأميركي من الأحداث في النيجر سيشكّل معبراً لبناء موقف فرنسيّ مستجد من الولايات المتحدة الأميركية.
لن يكون التباين بين الموقفين الفرنسي والأميركي حول كيفية التعاطي مع عزل المجلس العسكري في النيجر للرئيس محمد بازوم عرضيّاً، حيث أن التمسّك الأميركي بضرورة الحوار مع المجلس لم يوافق الموقف الفرنسي الداعي إلى إلغاء آثار خطوة المجلس، وإعادة بازوم إلى السلطة حتى لو استدعى ذلك حلاً عسكرياً.
وإذا كان من الممكن التقدير أن الموقف الفرنسي يؤكد إصراراً على عدم التسليم بالواقع الجديد، حيث تمّ الدفع بإيكواس، ممثّلةً بالدرجة الأولى بنيجيريا والسنيغال وساحل العاج، لتتبنّى الموقف الفرنسي، وتعلن نيتها شنّ عملية عسكرية لضمان عودة الديمقراطية بحسب ادّعائها، فإن إعلان الولايات المتحدة الأميركية أن الفرصة ما زالت سانحة لتحقيق حل دبلوماسي للأزمة، مع الإشارة إلى قناعتها بأن مجموعة إيكواس تشاركها هذه الرؤية، لا يمكن أن يصنّف إلا في إطار الموقف الهادف إلى لجم الاندفاعة الفرنسية، إذ أن الولايات المتحدة الأميركية لن تتقبّل إمكانية التحاقها بالسياسات الفرنسية، بما يؤدي إلى خسارة مكتسباتها في تلك المنطقة الحيوية بسبب اندفاعة فرنسية تعتبرها متهورة أو غير مناسبة لمصالحها.
وبالتالي، فإنّ ردّ الفعل الأميركي لن يصنّف إلا في إطار الضغط على المنظّمة بهدف الالتزام بالمسار الاستراتيجي الأميركي، الذي يربط تحرّكه في تلك المنطقة بإمكانية المحافظة على وجود يضمن مصالح الولايات المتحدة الأميركية، وقد يساعد في إمكانية الحد من اندفاعة روسيا والصين في تلك المنطقة، إضافة إلى ما يمكن اعتباره توجيه رسالة إلى فرنسا التي دائماً ما بحثت عن موقع مستقل خارج الحظيرة الأميركية.
وإذا كانت إيكواس قد أعلنت عن استعدادها للقيام بمهمة التدخّل العسكري، فإنّ وقوف مالي وبوركينا فاسو إلى جانب المجلس العسكري النيجري لا يمكن أن يقرأ إلا في إطار التصعيد، الذي لن يجعل من مهمة إيكواس ومن خلفها فرنسا مهمة سهلة. فإذا قفزنا فوق إمكانية تفكّك المنظّمة الاقتصادية لغرب أفريقيا كنتيجة حتمية أولى لهذا التدخّل، فإن إدخال منطقة الصحراء والساحل الأفريقي في أتون حروب لا يمكن حصر نتائجها ضمن إطار حدود الإقليم، حيث لن تتوانى القوى الكبرى عن إعلان مواقفها بطريقة تعكس الانقسام العمودي العالمي، الذي ظهر في مرحلة ما بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
وإذا كان من الضروري الالتفات إلى نتائج التدخل العسكري المحتمل لإيكواس من حيث آثاره على دول المنطقة وشعوبها، فإن ذلك لا يقلل من تأثير انعكاس التباعد في وجهات النظر بين الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، حول كيفية التعاطي مع هذه القضية وتأثيرها على مشاريعهما الاستراتيجية العالمية، ذات التوجّه الذي يمكن اختصاره بالعمل على عدم تعريض النظام العالمي وتوازناته الصامدة منذ انهيار الأحادية القطبية حتى ما قبل الحرب الأوكرانية، مع الإشارة إلى اختلافهما حول تحديد الأولويات والمنهجيات وإمكانية تحقّق توقّعاتهما.
فالإدارة السياسية الفرنسية تفترض أنه من خلال خسارتها لمعاقلها في منطقة الصحراء الأفريقية، ستفقد كلّ المقوّمات التي ضمنت لها تاريخياً موقعاً بين القوى الكبرى، خصوصاً وأنها فقدت تأثيرها في كثير من مناطق نفوذها التقليدية، ابتداءً من شرق آسيا مروراً بالشرق الأوسط وصولاً للقارة الأوروبية، التي برهنت الأحداث الأخيرة في أوكرانيا عدم صلابة تحالفها.
وبالتالي، فإنها تسعى من خلال ردّ فعلها العنيف على خطوات المجلس العسكري في النيجر إلى محاولة استدراك موقعها الذي خسرته في مالي وبوركينا فاسو والكونغو الديمقراطية، وبالتالي محاولة إعادة الاعتبار لموقعها عالمياً، في حين أن الإدارة الأميركية تقرأ الحدث النيجري ضمن المشهد الدولي المتأزم، بحيث أنه من المناسب، في المرحلة الحالية على الأقل، تحييده عن مجريات الصراع الدولي المحتدم في شرق أوروبا وعلى حدود الصين، على أن لا نغفل إمكانية تسخين هذه الجبهة أو الاستفادة من نتائجها متى استدعت الحاجة الأميركية ذلك.
وإذا كان من الممكن تقديم تحليل واقعي لتعارض الموقفين الفرنسي والأميركي من الحدث النيجري، فإن ذلك التحليل لن يساعد في تقدير عدم تأثّر العلاقات الاستراتيجية بين البلدين بهذا التعارض. فالإدارة الفرنسية كانت تفترض أكثر من مجرّد تفهّم أميركي لموقفها، وذلك في إطار رد الجميل الفرنسي الذي تمثّل بالالتزام الكامل بالتوجّهات الأميركية في أوكرانيا، مع الإشارة لما لهذه التوجّهات من آثار سلبية على موقع أوروبا العالمي وصلابة الاتحاد الأوروبي وقراره الأمني.
فمن خلال ملاحظة التعاطي المتبادل الهادئ والسلس بين كلّ من النيجر والولايات المتحدة، الذي تمثّل حتى اللحظة بعدم توجيه أي تهديد للقوات الأميركية الموجودة في النيجر، مقابل التصرّف الأميركي الهادئ الذي يمكن التدليل عليه من خلال تعيين سفيرة جديدة في النيجر، والامتناع عن إدانة عمل المجلس العسكري، والاكتفاء بتوجيه لوم له بسبب إمكانية عرقلة المسار الديمقراطي الذي كان يمثّله، وفق الرؤية الأميركية، حكم الرئيس المخلوع محمد بازوم.
من ناحية أخرى، يمكن الإشارة إلى قراءة تفترض مصلحة أميركية في الأوضاع المستجدة التي تظهر تفلّتاً من السيطرة الفرنسية، خصوصاً في النيجر. فإمكانية الاستفادة من الأحداث الموجّهة ضد السياسات الفرنسية في تلك المنطقة قد تظهر في محاولة ملء الفراغ الذي قد يخلّفه إنهاء الوجود الفرنسي فيها، إضافة إلى معاقبة فرنسا التي انتهجت في السنوات الأخيرة سياسات مناوئة للاستراتيجيات الأميركية في القارة الأوروبية.
فالمتعمّق في تحليل الرؤية الأميركية المتمحورة حول هدف المحافظة على التفوّق الأميركي من خلال تحصين النظام الدولي الذي استقرّ بعد الحرب الباردة، سيقدّر أن المسعى الفرنسي لبناء منظومة قادرة على إدارة الأمن الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي بعيداً عن أي تدخّل أميركي لن يمرّ من دون محاسبة.
وعليه، يمكن التقدير أن الموقف الأميركي من الأحداث في النيجر سيشكّل معبراً لبناء موقف فرنسيّ مستجد من الولايات المتحدة الأميركية، حيث سيترك تأثيراً حتمياً على علاقة البلدين، خصوصاً فيما يتعلق بالأزمة في أوكرانيا، وما يمكن أن تتركه من تبعات على الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى المسار الأميركي الشائك في شرق آسيا.
فالالتزام الفرنسي بالتوجّهات الأميركية في أوكرانيا، والتسليم بالمحافظة على الدور الاستراتيجي لحلف الناتو في أوروبا، من دون أن ننسى الالتزام الأوروبي والفرنسي التام بالعقوبات الأحادية الأميركية على أكثر من دولة، كروسيا وتركيا والصين وسوريا وإيران وغيرها، لن يبقى مقبولاً بعد أزمة النيجر. فمن المتوقّع أن تعيد فرنسا قراءة المشهد الدولي وفق رؤية شارل ديغول، التي تمحورت حول أهمية تفضيل المصالح القومية الفرنسية على المصالح الأميركية.
وإذا كان ديغول قد انسحب من حلف الناتو حتى لا ينجرّ إلى حرب باردة لم يكن يريدها مع الاتحاد السوفياتي، فإن رؤيته تلك ما زالت صالحة في ظل تمسّك الإدارات الأميركية المتعاقبة باستراتيجية الهيمنة التي تفترض ضرورة الإمساك والتحكّم بالتوجّهات الاستراتيجية لأوروبا ومن ضمنها فرنسا.
وعليه يمكن التقدير أن أزمة النيجر وتباعد الرؤى بين الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا ستؤسس لمرحلة من التباعد الاستراتيجي بين الطرفين، حيث تظهر البراغماتية الأميركية الهادفة لتحقيق المصالح الأميركية كإطار صلب يحكم عملية اتخاذ القرار الأميركي المتعلّق بالسياسات الخارجية الأميركية.