النظام العالمي بعد “طوفان الأقصى”
موقع العهد الإخباري-
إيهاب شوقي:
تعيش الولايات المتحدة الأمريكية أزمة وجودية من نوع خاص، وهي شبح خسارتها للهيمنة الدولية منذ مدة. وهناك مخاوف كبيرة عكستها مؤتمرات دولية كبرى، مثل مؤتمر ميونخ للأمن، تتعلق بشكل مباشر بشبح زوال مضمون الهيمنة وبتراجع النظام الليبرالي بصفته عنوانًا معلنًا.
وفي العام 2016، أجرت مؤسسة “راند” دراسة تجسد هذه المخاوف، حملت عنوان “فهم النظام الدولي الحالي”، والملفت أن البحث أُجري تحت رعاية مكتب التقييم الشفاف التابع لمكتب وزير البنتاغون. وتناولت الدراسة المخاوف على المصالح الأمريكية، لأنها على ارتباط بالنظام الدولي الذي دُشّن عقب الحرب العالمية، وأن هناك مخاوفَ من تغير هذا النظام، وبالتالي تراجع أمريكا.
والمراقب لتقارير الأمن القومي الأمريكية والدراسات المتعلقة به يلمح ملمحين أساسيين؛ وهما:
الأول: أن الولايات المتحدة لا بد وأن تقود النظام العالمي، ولا تسمح لأحد آخر بقيادته، حتى لا يُوجه بعيدًا عن المصالح الأمريكية.
الثاني: أن أي تعديلات مرتقبة بالنظام الدولي باتجاه أقطاب متعددة يضعها الأمن القومي الأمريكي تحت عنوان الفوضى!
من هنا؛ على من يستمع لأي تصريحات أمريكية تتحدث عن الفوضى أن يعلم أن أمريكا تتحدث عن وضع يمسّ بهيمنتها، لأن النظام في العرف الأمريكي هو الحفاظ الأمريكي على امتلاك المقود والاحتفاظ بأوراق اللعبة والكلمة الفاصلة بها.
ومن هنا أيضًا، يمكننا تفسير: لماذا وضعت أمريكا أولوياتها الراهنة في إفشال بوتين، وقطع الطريق على هيمنة الصين؟
في منطقتنا، من يريد الوصول لحقيقة السياسة الأمريكية، ربما عليه متابعة تصريحات البنتاغون، وليس تصريحات وزارة الخارجية المتضاربة والمتناقضة، ولا تصريحات البيت الأبيض التي تهدف غالبًا لمخاطبة الداخل الأمريكي، لأن متابعة تصريحات الخارجية والبيت الأبيض قد تقود لنتائج تحليلية خاطئة. أما متابعة البنتاغون وتصريحات مسؤولي الأمن القومي فقد تكون هي الأقرب لرسم صورة السياسات الأمريكية الحقيقية.
ومؤخرًا، قال وزير الحرب الأمريكي صراحة إن أمريكا تسعى لافشال روسيا وحماس، ووضعتهما في سلة واحدة، وهو ما يتطابق مع تقارير الأمن القومي الأمريكي التي حددت أعداء الولايات المتحدة، وهي روسيا في المجال العسكري، والصين في المجال الاقتصادي، وايران والمقاومة عمومًا على الصعيد الاقليمي، وأنها مهددة للهيمنة الأمريكية.
المعضلة الأمريكية الرئيسة هنا، أن عناصر النظام الدولي الذي تقاتل أمريكا لاستمراره يقوم على دعائم عسكرية واقتصادية ومؤسسات دولية ومعاهدات، ولافتة كبيرة ترفع شعار الديمقراطية والليبرالية.
وعالم ما بعد اندلاع الحرب في غزة، أو عالم “ما بعد الطوفان”، حدثت به تصدعات كبرى في هذه الأعمدة؛ وأبرزها:
1- المؤسسات الدولية الممثلة للنظام العالمي، وعلى رأسها الأمم المتحدة، أثبتت فشلها وعدم فاعليتها في الحفاظ على قواعد القانون الدولي.
2- المعاهدات الدولية والتحالفات التقليدية التي بدأ تفكيكها مع الحرب الروسية في أوكرانيا مهددة بعد نذر الانزلاقات المحيطة بالمنطقة، حيث برزت تحالفات إقليمية متناقضة مع الأمن الإقليمي، مثل مظلة الدفاع الإقليمي مع دول الخليج، والتي تهدف لحماية “اسرائيل” من اليمن ومن قوى المقاومة. وهي تعدّ انقلابًا على تحالفات العالم القديم الذي تسعى أمريكا للحفاظ عليه، والذي سيبلور بدوره ردود أفعال تتمثل في تحالفات أخرى مثل روسيا وايران، وقد تكون تركيا أحد الخارجين عمليًا، ولو احتفظت شكليا بمظلة الناتو التقليدية، ولكن قد تكون لها تحالفات أخرى عابرة للتموضع التقليدي، حيث أشواق الهيمنة القومية التركية في أسيا الوسطى والمعروفة بالطورانية وخلق أفاق جيوسياسية تشكّل فوضى في الترتيبات الأمريكية.
3- التناقض في رفع راية الديمقراطية والليبرالية وحقوق الانسان مع هذا التموضع في خندق واحد مع نظام ديكتاتوري فاشي قاتل، مثل النظام الصهيوني. وهو ما يخلق مشكلة مركبة، سواء في الداخل الأمريكي وتحديدًا في الحزب الديمقراطي أم في الخارج، حيث يمسّ بشرعية القيادة الأمريكية للمنظومة الليبرالية المزعومة. ولعل الضحية الأولى لهذا التناقض ستكون العلاقات مع أوروبا، والتي باتت شعوبها تلمس هذا التناقض وتتمرد عليه.
4- هذه الهيمنة على الأنظمة وإجبارها على التحدي لشعوبها ووجدانها العالق بفلسطين والمشاهد للمجازر والجرائم والمتعاطف مع المقاومة، سيخلق تهديدات مباشرة على الأنظمة التابعة لأمريكا، وهو مساس مباشر بالمنظومة الإقليمية التي تعتمد عليها أمريكا في السيطرة على منطقة من أهم جبهات الصراع الدولي، حيث تشكل القوس الرئيسي “قوس الأزمات” اللازم السيطرة عليه لإحكام السيطرة على أوراسيا وقلب العالم، وفقًا للنظرية الأوراسية الأمريكية للهيمنة.
ولعل شجاعة المقاومة والإصرار على تكريس وحدة الساحات، ولو بشكل تصاعدي، وعدم الخضوع للفزاعات والتهديدات الأمريكية، هو إعلان مبكر عن شكل نظام “ما بعد الطوفان”، والذي سيشكّل محور المقاومة فيه مكونًا اقليميًا وازنًا بحجم قطب مؤثر في الصراع الدولي.