النشيد الذي أسر القلوب: “هزّة” ثقافية وإشكالات تفضح قلق مطلقيها
موقع العهد الإخباري-
علي عبادي:
قبل أسابيع وأنا أشاهد فيديوهات عن تجمعات حاشدة تؤدي نشيد “سلام يا مهدي” (“سلام فرماندة” بالفارسية) من مدينة إيرانية الى أخرى، لم أتوقع – ولا أظن أحداً توقع كذلك – اختراق هذا النشيد الحدود والحواجز الجغرافية والقومية بسرعة قلّ نظيرها ليؤلّف إعصاراً يسوق القلوب بسلاسة الى صاحب العصر وبقية الله في أرضه. هل يعود ذلك الى سحر كلمات النشيد ولحنه الشجيّ، أم إلى طبيعة الظروف الحالكة التي نعيشها ونرى فيها ألواناً وألواناً من الظلم والتعسف في سياسات الدول المستكبرة تجاه دول العالم الثالث وتدفعنا إلى استعجال الخلاص، أم إلى تعلُّق القلوب بالإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه؟
لعلّ هذه العوامل جميعاً ساهمت في منح هذا النشيد المدى الواسع الذي أذهل الكثيرين، وفي مقدمهم الذين يعملون ليل نهار من أجل جذب القلوب بمختلف وسائل القوة الناعمة والتحكم بها خدمة لأهداف تصوغها قوى الهيمنة الدولية. تجمَّد هؤلاء أمام الحشود الهائلة التي رددت النشيد في الساحات من ايران الى العراق وسوريا ولبنان وافغانستان وباكستان وتركيا والهند وبلدان أفريقية، والمشوار لم ينتهِ بعد. وعبّر بعض هؤلاء عن إعجاب خفيّ بسرعة انتشار هذا النشيد وصدق تفاعل الجماهير معه، ولا سيما الصغار، وحاروا جميعاً في كيفية تفسير هذه الحركة التي تبدو تمرداً على القيم التي يزرعها الغرب في عقول الاطفال ابتداءً من الرسوم المتحركة وفي عوالم المراهقين والشباب عبر مواقع التواصل الاجتماعي. ولجأ بعضهم الى قوالب جاهزة لتنميط هذا التحرك، وحاول آخرون “ابتكار” تفسيرات جديدة لكنها لم تتغلغل الى عمق الظاهرة الفنية.
1- “استيراد المفاهيم”
حاججَ بعض المعلّقين السياسيين والإعلاميين المناهضين، في لبنان خاصة، بأن التفاعل الواسع مع “سلام يا مهدي” انطوى على استيراد مفاهيم من الخارج (يقصدون إيران)، وهذا – وفق إيحاءاتهم – كافٍ للتعييب على ظاهرة النشيد الواسعة النطاق. ربما كان لهم رأي آخر لو أن المفاهيم تأتي من أميركا وفرنسا! المفارقة أن هؤلاء يتفاعلون مع أي نغمة وبادرة تأتي من جهة الغرب، ويرفضون أي شيء من جهة الشرق: معامل الكهرباء، مصافي النفط، مشاريع البنى التحتية، وصولاً الى “سلام يا مهدي”!
كلنا يعرف أن لبنان بلد صغير منفتح منذ القِدم على ثقافات العالم، ولا يجد بعضهم ضيراً في استيراد أشكال الفنون حتى لو كانت أحياناً مستهجَنة أو مبتذلة، لكن أن تكون هناك أناشيد هادفة وذات طابع عقائدي ملتزم، فهذا ممنوع من عبور الحدود، لأن الثقافة التي لا تتلاءم مع معايير الغرب (الحجاب، النشيد، رفض الشذوذ، إلى مفاهيم المقاومة الثقافية والمسلحة) يرذلها وكلاء هذه الثقافة الذين يبرعون في فلسفة ما هو مقبول وما هو مرفوض من وجهة نظرهم.
2- الاختلاف الثقافي
هناك نغمة أخرى نسمعها منذ سنوات وتتردَّد بصورة مكثفة في الآونة الأخيرة: الثقافة التي يعبّر عنها حزب الله غريبة على لبنان، ولا تنسجم مع ثقافته! وكأن للبنان ثقافة واحدة! كلنا يعلم أن لبنان يحوي ثقافات متعددة دينياً وفكرياً، ولم يسبق أن توحَّد اللبنانيون ثقافياً في يوم من الأيام، وتشهد كتب التاريخ المتعددة بين أيادي طلاب المدارس على وجود هذا الاختلاف وتعمّقه، والكل يتعايش مع هذا الوضع. وحتى البطريرك الماروني في مذكرة الحياد التي أذاعها في آب 2020 أشار مطولاً الى الخصوصيات الثقافية بين اللبنانيين، وألمح الى أنها أحد الأسباب الموجبة التي تدفع إلى “اعتماد الحياد النَّاشط”، فلماذا يتّسع البلد لثقافة هنا أو هناك ولا يتسع فجأةً لأخرى؟ وهل ان التغييرات التي طرأت على المجتمع اللبناني خلال المئة سنة الأخيرة بفعل تمدُّد نفوذ الغرب الثقافي هي ظاهرة طبيعية وأصيلة؟ ونذكّر هنا بأن القيم المحافظة هي التي كانت تسود المجتمع اللبناني بمختلف تلاوينه الدينية إلى منتصف القرن الماضي على الأقل. ثم من قال إن المجتمعات البشرية في شرقي الارض وغربها، ومنها مجتمعات أوروبا وأميركا، لن تفرز عناصر مضادة للحضارة المادية التي بدأت تشهر إفلاسها بفعل تسليط أدوات التوحش على مصير البشرية وغياب القيم الروحية وموازين العدالة وانتشار التفكك الأسري؟
3- الإيمان بالغيب
تمنطقَ بعض المعلقين بحجة أخرى للتعبير عن ضِيقهم من نشيد “سلام يا مهدي” وصداه الشعبي الواسع. قالوا إنه يركن الى الإيمان بالغيب ويأخذنا بعيداً عن هموم الواقع من الكهرباء ومشاكل الحياة الكثيرة! يعني إذا لم ننشد “سلام يا مهدي”، سنتمكّن من التصدي لمشكلة الكهرباء والتضخم بشكل أفضل؟! هؤلاء أيضاً يكيلون بمكيالين: يبيحون ويتفاعلون مع المهرجانات الغنائية ومسابقات الجَمال وألوان الترفيه في الكازينوهات والأماكن التراثية وسواها، من دون أن يكون ذلك متعارضاً في نظرهم مع الوضع المعيشي البائس لفئات تتزايد نسبتها في المجتمع.
على الأقل، لا يحمل النشيد الذي يعترضون عليه أي تعارض “طبقي” أو مادي مع الواقع المعيش، وهو يساهم في ترميم التماسك الاجتماعي ويمدّ المؤمنين بطاقة إيجابية تساعد على تحمل التحديات العظمى والمصاعب في حياتهم اليومية.
4- ربط النشيد بالرموز
استنكر بعض المناهضين استخدام أسماء القادة والرموز من الشهداء في النشيد، وهذا يؤدي في نظرهم الى تسييسه. وما المشكلة في التسييس، طالما اننا في هذا العصر نتنفس السياسة حتى في الأنشطة الثقافية والرياضية وفي الإقتصاد والإجتماع؟ ألا يُسيّس الغرب المعياريّ الأنشطة الرياضية مثلاً عندما يعاقب بلداناً مغضوباً عليها من المشاركة في مباريات دولية، كما فعل مع روسيا مؤخراً؟ أولا يفرضون عقوبات قاسية على اللاعبين الذين يرفضون مواجهة لاعبي الكيان الصهيوني لمجرد أنهم يرفضون مبدئياً التطبيع معه؟ أليس نموذجهم المحبَّب في الغرب يستعمل كل الوسائل في الحرب على قوى المقاومة؟ ثم لنلاحظْ تضارب هذه الحجج: مرة يُعاب على ظاهرة النشيد أنها بعيدة عن الهموم المعيشية، ومرة أخرى أنها تطلّ على الصراعات التحررية الكبرى في المنطقة، هذه الصراعات التي تجري مع من يصنعون مآسي الشعوب كل يوم.
الواقع أن أي ثورة تهدف الى تغيير الواقع لا بد أن تستخدم كل الأدوات المؤثرة بين يديها من أجل استنهاض الشعوب ومواجهة المستكبرين. والإمام المهدي هو أحد العناوين الكبرى الملهِمة التي ارتبطت بها الثورة الاسلامية التي انطلقت من إيران، لأن القائمين عليها يعتقدون أنه لا بد من التمهيد للإمام الذي سيقود مشروعاً تغييرياً على مستوى العالم، ولا يحمل مشروع هداية فردية فحسب. وكل حركة أو ثورة في التاريخ لا بد لها أن تحدد حلماً بعالم أفضل تسعى وراءه.
في الأصل، لا توجد حدود قاطعة في الإسلام بين الدين والسياسة. لقد لخّص الامام الخميني من وجهة نظره هذه العلاقة بقوله: “سياستنا عَيْن ديننا، وديننا عَيْن سياستنا”، كنايةً عن رفض كل مقولة فصل الدين عن السياسة، والتي جاءت مع المدّ الغربي لعزل الإسلام عن واقع الحياة العامة.
5- المقاومة خلف المشهد
قال بعض المعترضين على نشيد “سلام يا مهدي” إن كل ما سبق من اعتراضات ليس بالمشكلة الكبيرة؛ المشكلة هي في وجود قوة صاروخية ضخمة للمقاومة تقف خلف هذا المشهد البشري المترامي الاطراف! بعبارة أوضح، إشكالهم الرئيسي في أن هذا الفعل الشعبي يكتسب أهميته من أنه يصبّ في عناصر القوة التي من شأنها أن تقاوم وتغيّر الواقع المفروض الراهن الذي ترزح تحته شعوبنا بفعل الاحتلال والحصار. هذا النوع من المعترضين يريد من شعوبنا أن تكون وادعة تستسلم لما يُملى عليها، وحينها لا مشكلة تُذكر في أية أنشطة فنية، وفق سياق منطقهم. وهذا على طريقة ذلك الجنرال الإنكليزي الذي سمع ذات يوم صوت الأذان يُرفع في إحدى الدول المسلمة المستعمَرة، فسأل عن الموضوع، فقيل له إنه دعوة الى الصلاة لدى المسلمين، فسأل: هل فيه من ضرر على مصالح بريطانيا في مستعمراتها، فقالوا لا، فقال: إذًا فليصلّوا ما شاؤوا !
* الاستثمار في القوة الناعمة
أحدث الصدى الواسع لنشيد “سلام يا مهدي” بين متجاوب ومعترض، ما يمكن تسميته بـ “هزة ثقافية” لم تكن في حسبان الكثيرين، وفضح بشكل أو آخر قلق ووهن منطق الذين يتسترون بالتعددية الثقافية لتمرير أجنداتهم، لكنهم يختنقون عندما يتعلق الأمر بثقافة لا تتناغم مع أهدافهم في تذويب هوية الأمة في مجرى حضارة الغرب وسياسات الهيمنة.
من الواضح أن هذه الأناشيد وسواها من الأنشطة الفنية تخدم غرضاً إستراتيجياً يتمثل في إعادة صوغ هوية أمّة تلاشت معالمها على مر العصور بفعل المحن والتجارب المريرة التي عاشتها، لا سيما بفعل تكالب قوى الاستعمار الخارجي عليها. بهذا المعنى، تصبح هذه الأنشطة الفنية عنواناً بِنائياً، كأي عنوان يبني عناصر القوة المعنوية في شخصية أبنائنا وبناتنا.
لهذا، يؤشر التجاوب الشعبي المنقطع النظير مع نشيد “سلام يا مهدي” بخصوصياته المختلفة، وكذا ردود أفعال المعترضين الواسعة، إلى ما لهذا اللون الفني من جاذبية تعيد وصل ما انقطع من عناصر ثقافية مغيَّبة، وإعادة استقطاب الناس من العالم الافتراضي التنظيري المشتِّت الى عالم الفعل الواقعي الجامع. وهذا يستدعي تفعيل المواهب الفنية الرفيعة المستوى لناحية الكلمة واللحن والأداء، إلى جانب أشكال تعبيرية متنوعة، بهدف الاستفادة منها في التغذية الثقافية ذات المضمون المنسجم مع هوية الأمة.