النسخة المحدّثة من إجرام جعجع: إنتهاك عقل جمهوره!
موقع العهد الإخباري-
ليلى عماشا:
بعد مطالعة ما جاء في حديث سمير جعجع (الاسم ليس بحاجة إلى تعريفات أو توصيف، يمكن للقارىء الاكتفاء بما ورد في ذهنه من جرائم ومشاهد مرتبطة فيه ومدان بها)، يكتشف المرء أن التضليل صنعة مهما احترفها المرء يبقى مبتدئًا بها، يبقى هاويًا، وطبعًا “مش هينة” بعد عمر من الإجرام الواضح أن يكون ارتكاب التضليل واضحًا، بحيث لا يحوي ما يمكنه أن يقنعَ أحدًا، ما عدا الباحثين عمّن يضلّلهم كي يغذوا حقدهم أو يبرّروه.
ارتكب جعجع مؤخّرًا مجزرة الطيونة، على سبيل اعتراضه على المطالبة بتنحية القاضي غير الموثوق على الأقل بسبب كمّ التسييس والتحامل الذي أظهره كمحقق في كارثة انفجار مرفأ بيروت. اعترض جعجع على اعتراض الناس فرماهم بالرّصاص من على أسطح المباني، المكان المثالي الذي يقنص منه من لا يتجرّأ على القتال أو لا يجد إليه سبيلًا، نظرًا لعجزه عن بلوغ مستوى الخصومة بالمعايير الموضوعية والمنطقية. وأكثر من ذلك، رفض مطالبة الناس بالإفراج عن التقرير التقني. ثمّ جاء بالأمس، مرتديًا قناع الحزين على ما جرى في المرفأ، ليخبرنا أنّه ترك مجالًا للتحقيق المحليّ بأن يأخذ مجراه ولم يحصل شيء. حسنًا، ما هو الشيء الذي أراده جعجع أن يحصل كخاتمة للتحقيق المحلّي؟ إدانة حزب الله خاصة وعموم بيئة المقاومة وبشكل أعمّ محور المقاومة بارتكاب انفجار المرفأ. وما لم تحصل هذه الإدانة، بأي طريقة ولو لم يرد أي دليل ظرفي أو جرمي عليها، فجعجع يسقط ثقته بالقضاء! أجل، يريده قضاء بأحكام وخواتم مفصّلة على قياس مساعيه وأمنياته والتزاماته تجاه أحبابه “العتاق”.
ولما لم يحصل ما أراد جعجع وسائر عصابة التضليل، أخبرنا الخبير بارتكاب المجازر الموثقة، أنّهم (بالجمع، أي مع شركاء) بصدد رفع مذكّرة للمجلس الأعلى لحقوق الإنسان من أجل تشكيل لجنة تقصي حقائق دولية. بهذه القدرة الركيكة على التضليل، يقفز جعجع إلى الاستنجاد باللجان الدولية كي يحصل على الخاتمة التي يبتغيها هو وسائر الموظّفين والأدوات العاملة في فروع اللجان المختصة بتحريك ذيول الإدارات الدولية حيثما وحين تدعو الحاجة.
ربما من أبسط الأدلة، وإن ليس من حاجة للدليل، على لا مهنية ولا عدالة ولا مصداقية هذه اللجان، هو كونها تقبل تقريرًا أو مذكّرة وقّعها أو وافق عليها مجرم حرب مدان ومعفوّ عنه بتسويات سياسية. إذا عزلنا جميع ارتكابات لجان التحقيق الدولية عن أذهاننا، وإذا تناسينا ما ارتكبت في قضية اغتيال رفيق الحريري، يمكن إسقاط أي مصداقية عنها بمجرّد أن ينطق باسمها مستنجدًا شخصٌ فيه من صفات جعجع، وله من السوابق الجرمية المثبتة ما لجعجع.
لم يكتفِ جعجع بإبداء رأيه، غير المؤثّر عمومًا، في ملف قضية المرفأ؛ فحديثه عن الانفجار والتحقيق لم يكن سوى نقطة في بحر جولته الكلامية الحافلة بالأوهام. فقد تطرّق إلى موضوع انتخابات رئاسة الجمهورية معتبرًا أنّ وصول رئيس من “محور الممانعة”، أي رئيس يرضى عنه مكوّن لبناني يضرّ وجوده بمشاريع جعجع، يعني أن “على الدنيا السلام” (وبالمناسبة، السلام في أدبيات جعجع مرتبط بحقل معجميّ واسع يحوي مفردات وعبارات كثيرة كالقتل والتهجير والخيانة والعمالة، وطبعًا السلام مع الصهاينة). يتابع: “سنعارض وصول أي رئيس من محور الممانعة بكل ما أوتينا من قوّة ومن قوات”، أي أقحم اسم حزبه في الجملة على سبيل الظهور بمظهر البليغ اللاعب على الكلمات ممرّرًا تهديدًا مبطّنًّا. المدهش أن “كلّ ما أوتينا من قوّة” تتحوّل إلى جملة تستدعي السخرية حين يكون الجميع على علم بأنّ قائلها وكلّ قوّته التي يهدّد باستخدامها ليعارض، هي في أقصى حدودها تبلغ ارسال قتلة إلى أسطح المباني لقنص المارّة، وأنّ القائل نفسه لم يفهم أنّ “زمن الأوّل تحوّل” وأنّه لم يعد بإمكان جيش العدو الصهيوني المجهّز بأعتى آلة حربية أن يفعل شيئًا حيال المقاومة وبيئتها، سوى التهديد الفارغ طبعًا. (تمّ ذكر جيش العدو في السياق لتذكير جعجع أن في أيام “عزّه” غزا العدو لبنان وهرب، وأن في العام ٢٠٠٠ اندحر من الشريط المحتلّ تاركًا أدواته “ينكحتوا” ولكن ليس “بشرف” بعد أن رضوا بالكحت واعتبروه طبيعيًا، لتذكيره أنّ الأدوات “تُكحت” حين يُهزم المشغّل).
بالعودة إلى خطبة جعجع بالأمس، قال إنّ وضعية حزب الله لا شرعية ولا قانونية وإنّه يخالف كلّ القوانين والدستور، ولم يذكر نوع المخالفات أو المواد التي تتعلق بها، لسبب بسيط وهو عدم وجودها أصلًا. وإن كان ثمّة ما يخالف العرف المجتمعي بالحدّ الأدنى، فهو وجود مدان معفوّ عنه في ظرف سياسي محدّد في منصب سياسي، فمعلوم أنّ المدانين بجرائم قتل مثبتة يفقدون تلقائيًا الأهلية الأخلاقية لإبداء الرأي في قضايا كبيرة تتعلّق بالمجتمع والناس، وجلّ ما يمكنهم إبداء رأيهم به ينبغي أن لا يزيد عن رأيهم بالطقس أو بلون الستائر، ولا يُسمع.
هاجم جعجع التيار الوطني الحرّ ورئيسه جبران باسيل، وهو أمر بديهي. فالتيار بتحالفه مع حزب الله دمّر أحلام جعجع بالرئاسة، بل دمّر كلّ مشروعه، أقلّه عبر قطع الطريق عليه نحو انقسامات حادّة تؤدي إلى حرب يريدها جعجع ويحتاجها كي يمارس من خلالها حرفته الوحيدة، وكي يتغذّى حضوره من دم الناس وكراماتهم.
كذلك تحدّث، بثقة لفرط وهميّتها تضحك، عن “التعتير” من طهران إلى الضاحية. مع التشديد على فكرة أنّ التعتير ليس عيبًا، والفقر مع الكرامة شرف لا يُقارن بعار الرفاهية مع العمالة، إلّا أنّ المعتّر فعليًا على مستوى الرؤية والتعبير والتحليل هو جعجع نفسه. يتحدّث الرجل عن طهران وكأن لم تمرّ عليه الأزمنة التي تحوّلت فيها الجمهورية الاسلامية المحاصرة من قِبل أسياده إلى قوّة عظمى (فليسأل شيا، ألا يثق بها؟!)
واقعًا، ما قاله جعجع بالأمس فيه استغباء مهين للحضور الضئيل المصغي إليه، ولنقل الذي يتكلّف الإصغاء أو يدّعيه، وللجمهور المفكّك الذي يود أن يسمع من زعيمه كلمة موثوقة يمكنه التباهي بها في جلسات التقييم مع المشغلين من مختلف السفارات المعادية لمحور المقاومة. يحق للجمهور الخصم (إذا أدرك يومًا معايير الخصومة) مهما كان مضلّلًا أن يسمع زعيمه متحدّثا بصدق، أو حتى بكذب يحترم العقول، كي لا يظل محرجًا أمام البيئة التي تباهي الكون بصدق قائدها واحترامه وحبّه لها. فأكثر ما يمكن أن يثيره أتباع جعجع لدى من يسمعونه من سائر المكوّنات اللبنانية هو الإشفاق على عقولهم وقد أهانها “زعيمهم” حدّ استباحتها واعتبارها غير موجودة أصلًا. لا بأس، ففرعون فرعن وانتهك عقول ناسه منذ أن سمحوا له بتفريغها وإعادة تعبئتها بالأوهام والأضاليل والأكاذيب. عمومًا، لن ندخل بين البصلة وقشرتها، ولا سيّما إذا كانت فاسدة، لكن المجاهرة بالرائحة النتنة تستدعي التوقف عندها ولو لبرهة..