الموت غرقاً في بلد الإنتخابات والهجرات
موقع قناة الميادين-
ريما فرح:
التعاضد الاجتماعي يعيب على أغنياء طرابلس أن يتركوا شعبهم لقدره، وأن تبقى مدينتهم أفقر مدينة على البحر المتوسط.
طرابلس اللبنانية؛ المدينة نفسها التي خرج منها أغنى أثرياء لبنان، يخرج منها مع انبلاج كلّ فجر العشرات في قوارب الموت. يشقّون البحر هرباً من البؤس والجوع والعوز، بحثاً عن حياة بحدها الأدنى في العالم المجهول.
لا يعفي وجود أثرياء في المدينة الدّولة من مسؤولياتها، لكنَّ المسؤولية الوطنية والإنسانية ومنطق التعاضد الاجتماعيّ يعيبان على هؤلاء أن يتركوا شعبهم لقدره، وأن تبقى مدينتهم من أفقر المدن على المتوسط.
ركوب البحر أو مغادرة اللبنانيين الهاربين من جحيم وطنهم بأيّ وسيلة، بحرية أو جوية أو حتى برية، ليست مسألة اقتصادية واجتماعية وإنسانية فحسب. إنها مسألة يأس وفقدان ثقة بالدولة ورجالاتها ومؤسساتها وأحزابها، وهي أزمة متراكمة عمرها عشرات السنين. ومن لا يكترث لأزمة المحرومين الهاربين، كيف له أن يلهث وراء هاربين سبقوهم للحصول على أصواتهم في البلاد التي لجأوا إليها، والمسماة بالمغتربات!
ولو قدّر لركاب زورق الموت اليوم أن ينجوا ويصلوا إلى حيث تشلحهم الأقدار، لشكَّلوا حتماً في الانتخابات المقبلة بعد 4 سنوات هدفاً يصوّب عليه مرشحو المدينة لكسب أصواتهم للوصول إلى قبة البرلمان.
ليست طرابلس المدينة الوحيدة التي تشهد ظاهرة هجرة في لبنان، فتكاد لا تخلو قرية أو بلدة أو مدينة من ظواهر مشابهة، فجيل اليوم من الشبان اليافعين يبحث معظمه عن وجهة يلجأ إليها، مهما كانت شارة العبور التي يحصل عليها.
يحلو للبعض أن يطلق على دول الاغتراب مسمى دول الانتشار (انتشار اللبنانيين)، وكأن العالم مسكب زرع نمتلكه وننشر بذور ثمارنا فيه كيفما نشاء، “لنغني” هذه الدول، كما تقول أساطير الشعراء، ونمدها بالعلوم النووية، باعتبارنا “أبناء سلالة الحمض النووي للخوارزمي” وابن سينا وسائر العلماء العرب الذين سبقوا هجرتنا بمئات السنين، بمعزل عن أننا نشهد للعديد من أبناء لبنان أنهم سجلوا نجاحات حيث هم، ونقدّر طاقاتهم وإسهاماتهم في أكثر من مجال، لكن لو كان في لبنان دولة ترعاهم وتقدّر موهبتهم، لكانوا زرعوا في أرض وطنهم إنجازات عظيمة ضاعت وبددتها السلطات القابضة على مقاليد الدولة أباً عن جد.
الهجرة الشرعية وغير الشرعية على مدى أعوام، وإن كانت بمجملها تنطلق من البلدان الفقيرة، تنشط أيضاً في الدول التي تشهد حروباً ونزاعات، لن تكون آخرها الحرب في ليبيا وسوريا والحرب الأوكرانية وغيرها.
في لبنان، يعود تاريخ الهجرات الكبيرة إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مع وجود الدولة العثمانية، وفي ظلّ الحرب العالمية والمجاعة، وإلى القرن العشرين، مع الانتداب الفرنسي والحرب العالمية الثانية، ثم الحرب الأهلية ما بين العام 1975 والعام 1990. وقد اشتدت اليوم منذ بدء الأزمة الحالية في العام 2019، والمستمرة والمرشحة إلى مزيد من التأزم، في ظل غياب أي معطى عن أمل بإنقاذ البلد.
وإذا قدّر للاستحقاق الانتخابي النيابي المرتقب بعد أيام أن يتجاوز قطوع تداعيات غرق مركب الموت قبالة طرابلس، فإنَّ مسألة اقتراع زملاء ركاب المركب الذين نجوا قبل عشرات السنوات ووصلوا سالمين وأقاموا في المغتربات (اقتراع المغتربين) ستعود إلى الواجهة مع ما يرافقها من جدل حول إجراءات اتخذتها وزارة الخارجية اللبنانية أدت في ما أدت إليه إلى تشتيت المقترعين من أبناء العائلة الواحدة في أكثر من قلم اقتراع، ما يصعّب عليهم المشاركة، نظراً إلى بعد المسافات الفاصلة بينهم.
التعويل على الصوت الاغترابي في قلب موازين القوى في نتائج الانتخابات لا يبدو مع اقتراب موعد الاستحقاق بالحجم الكبير الذي كانت تراهن عليه قوى الرابع عشر من آذار وما يسمى قوى التغيير أو الثورة أو المجتمع المدني سابقاً قبل سنتين، أو بالحد الأدنى في مرحلة الإعداد لتسجيل أسماء الذين يودون المشاركة في الخارج.
حينها، كان الرهان على أن المقيمين في الخارج ناقمون على السلطة وعلى كل المنظومة الحاكمة التي أوصلت البلد إلى ما وصل إليه، إضافة إلى الموقف المتماهي مع مواقف الدول المضيفة من موضوع سلاح حزب الله والمقاومة، فنشطت ماكينات تلك القوى والأحزاب الحليفة بحشد تأييد المغتربين، بعدما أغرقت بتمويل من المنظمات غير الحكومية الدولية وما يعرف بالـ”NGOS”، التي أغرقت أيضاً بعض وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي بتمويل سخي، أدى في المحصلة إلى تسجيل أكثر من ضعف ما كان مسجلاً في دورة انتخابات العام 2018، غير أن الجزم قبل أسبوعين أو أكثر من موعد الاستحقاق يبدو ضرباً من المقامرة، إن جزمنا بأن تلك القوى قد تعمد إلى تقبل الواقع كما هو، ولا بد لها من التحرك في أكثر من اتجاه لإعادة تحريك المياه الراكدة في أجران الاغتراب التي يجمع أكثر من مصدر على أن مرد تراجع الحماس لديها هو تشتت قوى التغيير وغياب برنامج واضح لديها، ثم إن المتقدمين إلى الترشح ليسوا على مستوى من يعوّل عليهم قيادة عملية التغيير.
وفي تقاطع معطيات ونتائج أكثر من دراسة إحصائية خاصة بانتخابات المغتربين، بدا أن تأثير اقتراع هؤلاء لن يكون نفسه في كل الدوائر، وتشير إلى أن نسبة المشاركة إذا ما بلغت النسبة التي سجلت في الدورة الماضية في العام 2018 مع ملاحظة ارتفاع عدد المشاركين، نظراً إلى ارتفاع عدد المسجلين (225114 ناخباً)، فإن التأثير بمقعدين سيطال 4 دوائر، هي الشمال الثالثة وجبل لبنان الرابعة وبيروت الأولى وبيروت الثانية. أما باقي الدوائر، فقد يطال التأثير مقعداً واحداً لكلٍّ منها، باستثناء دائرتي الشمال الأولى والبقاع الثالثة التي لن يطالها أي تأثير.
إنها المرة الأولى منذ العام 1992 التي تجري الانتخابات فيها وسط أزمة حادة تقارب الانهيار الكبير، ويدق أبوابها الانفجار الاجتماعي الكبير، فلا همّ لدى غالبية الناس يفوق همّ تأمين قوت يقيهم الجوع.
لقد تسنّى لي أن أحضر في جلسة في إحدى بلدات جبل لبنان للحديث عن سير العملية الانتخابية فيها وفي الدائرة التابعة لها، وكان الحديث الطاغي هو حاجات الناس اليومية: فلانة دفعها العوز إلى بيع جرة الغاز لتدبير أمورها حتى نهاية الشهر، وهي مستعدّة للاقتراع للمرشح الذي يؤمن لها جرّة غاز معبأة بديلة. فلان بحاجة إلى عملية جراحية في إحدى عينيه. أعلن المرشح X تغطية نفقاتها في هذه العيادة، لا في ذلك المستشفى، فتمت الموافقة. فلان أنجب طفلاً ويسعى لتوفير حليب له لسنة كاملة. وقد وجد مرشحاً يقبل بتأمين الحليب، لكن مقابل نيل أصوات العائلة الأربعة، والد الطفل وزوجته وأخته العزباء ووالده المتقدم في السن… وقس على ذلك: المرشح الفلاني يدفع بدل أتعاب 200 دولار أميركي، الآخر يدفع 3 ملايين. حسناً، فلنسجّل لدافع الدولار نقداً 3 مندوبين بدلاً من مندوب واحد… مرشح آخر يدفع مبالغ لقاء خدمات أخرى، منها شراء أصوات ومخصصات بنزين وسواها.
وما مشهد سرقة الكراسي خلال إطلاق ماكينة انتخابية لأحد المرشحين في طرابلس مؤخراً سوى دليل على حال الفقر المدقع الَّذي وصل الكثير من اللبنانيين إليه. ثمة أنشطة تمويلية ورشاوى رائجة لم تشهدها المناطق من قبل، وكلما اقترب الاستحقاق ازدادت تلك الأنشطة وتم ابتداع جديد فيها.
إنها مصيبة شعب ابتلي بما ابتلي به ربما بملء إرادته، وربما رغماً عنه على مدى عمر جمهورية كثرت سيئاتها وتراكمت، ولم تجد بعد من يبدد ثقل أحمالها، إلا أنها في النهاية لعنة حلّت بالوطن وبأي أمل ببناء وطن.