المليار الذهبي والحل الغربي!
موقع العهد الإخباري-
أحمد فؤاد:
قبل أسابيع قليلة من اندلاع الحرب العالمية الأولى، كان السياسي والناشط العمالي الفرنسي جان جوريس، هو الشخص الأوحد في القارة الذي تنبأ بوقوعها، بل ورسم مسارها ووصف مآسيها. لم يكن اليساري التقدمي جوريس بالتأكيد يسأل النجوم أو يملك القدرة على هتك حجب الغيب، لكنه ببساطة قرأ عن الحرب الأهلية الأميركية، وعرف جذر مشكلة النظام الرأسمالي الغربي، وبالتالي استطاع فهم واقعه وقراءته بشكل مثالي وصحيح.
وكان صوت جوريس العالي دائمًا، ومطالباته للحركات العمالية في فرنسا وألمانيا وبريطانيا بعدم الانسياق وراء الدعاوي الوطنية الزائفة، وضرورة التحالف ضد نظام النهب الأوروبي الرأسمالي لحقوقهم، هو الداعي الأول وراء اغتياله، في الأول من آب/ أغسطس 1914، وإسكات هذا الصوت، الذي تمتع بالوعي والذكاء الشديدين، وإذكاء أصوات الحرب الحمقاء، المستجيبة لمصالح رجال المال والصناعة والأغنياء في باريس وغيرها من العواصم الأوروبية العامرة.
وسارت القارة العجوز بحماس واندفاع هائلين وراء سيناريو جوريس، فاستطاعت استنساخ التجربة الأميركية المريرة في الحرب الأهلية، وكانت تلك هي الحرب الثانية في التاريخ الإنساني كله، التي يستطيع البشر فيها حشد ملايين الجنود، بفعل توفر وسائل النقل وتطور المصانع الحربية، والدفع بملايين الضحايا إلى المذبحة، ليتخلصوا في وقت واحد من الزيادة السكانية الهائلة التي كانت تضرب القارة المكدسة أصلًا، ويسكتوا كل صوت كان يطالب بعدالة توزيع الثروات أو على الأقل ضمان الحد الأدنى من الحقوق للطبقة العاملة في الأرباح الضخمة التي كانت تجنيها قلة محددة من الزعماء والأغنياء، وتزيد من عمق معاناتهم وفقرهم.
وبعد مرور 4 سنوات فقط من الحرب، فقدت أوروبا ما يناهز 16 مليون نسمة، كضحايا في الأعمال العسكرية التي انحصرت حول الخنادق في شرق القارة وغربها. لكن كابوسًا آخر كان على وشك الوقوع، بانتشار فيروس الإنفلونزا الإسبانية المروع، وهو ما أدى لموت ما بين 50 الى 100 مليون ضحية إضافية، لتنتهي الحرب بمأساة أكبر من التي تصورها جوريس، وبمكاسب مضاعفة للصناعيين وأصحاب المصالح والقلة الغنية المحتكرة للسلطة والثروات، وكل هذا مقابل الموت والمعاناة للفقراء.
هل كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يقرأ من كتاب الغيب حين تحدث عن “المليار الذهبي”، ولجوء دول الرأسمالية الغربية بقيادة الولايات المتحدة للحروب ونشر الأوبئة، لتقليل عدد سكان العالم، وبالتالي ضمان كفاية الموارد للعدد المناسب من البشر، وفق تصورهم وتعريفهم للبشر في إنهم العرق الأبيض المتفوق؟ لا جدال في أن بوتين يقرأ ويفهم جيدًا النظام الغربي، ويدرك أن الصراع الروسي الحالي مع الغرب في أوكرانيا هو بوابة حرب عالمية جديدة مدمرة، لكن إلى أي مدى يمكن الحكم على صحة توقعاته؟
الواقع يقول إن عدد سكان العالم اليوم قد قارب عتبة الـ 8 مليارات نسمة، نحو 7.83 مليارًا، وهذا العدد يفوق بكثير ما تحتمله الموارد لإبقاء فرص الحياة متاحة أمام الجميع، وبإضافة الهوة الساحقة في توزيع الثروات بين الدول ثم بين الأفراد، يتضح إلى أي مدى قد تسير الرأسمالية لضمان استمرار مصالح القلة المحتكرة.
وهذه القلة الحاكمة في الغرب لا تسيطر فقط على المال، لكنها أيضًا تبسط يدها على الحكم والسلطات وتصنع القوانين، بل وتضع القواعد الاجتماعية والأخلاقية لمجتمعاتها، وبالتالي فإنها تحتكر ــ فوق ما تحتكره ــ تعريف الوطنية والمصلحة، وكلاهما يعني امتلاكها لقرار الحرب أو السلام، وبسيطرتها العالمية غير المحدودة، وباحتياجها الدائم للموارد من عالم الأطراف والدول الأقل تقدمًا وقدرة، يمكن استنتاج الطريق المعروف للخروج من أزماتها الحالية، من قلة معدلات النمو والتضخم والزيادة السكانية، وهو طريق واحد معناه الحرب والدمار.
والقارئ للتاريخ الأميركي كجزء من التاريخ الغربي، يدرك على الفور أن النظام الرأسمالي قد ولد ومعه أزماته ومشكلاته، ولا تكاد تمر عدة أعوام حتى تقفز من المجهول أزمات اقتصادية هائلة وكبيرة ودورية، تعصف باستقراره وتهدد استمراره، ثم يلجأ هذا النظام على الفور إلى تصدير أزماته أو حتى صناعتها في صورة حرب مدمرة، قد تكتسي بالطابع الوطني أو الأخلاقي أو حتى الديني، لا يهم، طالما كانت تحقق الغرض، وتعيد ضخ البخار إلى الآلات والمصانع، وتقضي على عدد وافر من الأيدي غير العاملة في معارك عبثية مدمرة.
وخلال مرحلة الحرب الأهلية الأميركية المدمرة، من 1861 إلى 1865، والتي تلت حربًا أخرى على المكسيك الضعيفة، من 1846 إلى 1848، قاد اتحاد الولايات الشمالية “الغنية والصناعية” عملية تحويل قسري ودامٍ للمجتمع بواسطة البندقية والمدفع، مرورًا بعملية تحرير العبيد، وضمهم بالتالي إلى صفوف العمالة منخفضة الأجور في المصانع التي عرفت أول نمو هائل لها، وقفزة جعلتها تتفوق على أوروبا للمرة الأولى، في عصر إعادة الإعمار الضخم الذي تلا الحرب، واستمر من 1863 إلى 1877.
وبعد سنوات قليلة، وبالتحديد في 1910، أطلت أزمة ركود جديدة استمرت حتى 1914، كادت تعصف بالنمو الأميركي، إلا أن اشتعال الحرب العالمية الأولى، ودخول الولايات المتحدة في المرحلة الاولى منها كمورد أسلحة وداعم لجهود بريطانيا وفرنسا، جعلت الأزمة تتحول إلى فرصة كبرى للنمو، وباتت الولايات المتحدة بعد الحرب مباشرة هي حصان الرهان الرابح للرأسمالية الغربية كله، وخزينة تمويلها القادرة.
وقبل الدخول إلى حرب عالمية جديدة، سقط الاقتصاد الأميركي في فخ الكساد العظيم في 1929، والذي استمر يأكل الأخضر واليابس من معدلات النمو الأميركية وثروات مواطنيها وقدراتهم الشرائية، حتى اشتعلت حرب جديدة، مكنت المصانع من العمل على مدار الساعة لتغطية الطلبات الحربية التي لم تكن تتوقف، سواء من الجيش الأميركي أو من حلفائه، وخرجت البلاد بعدها إلى أزهى مراحل تاريخها، تتربع وحدها على عرش الاقتصاد العالمي، والثمن كان فقط 70 مليون إنسان سقطوا ضحايا مقابل شراء الرخاء الأميركي.
وخلال السنوات القليلة الماضية، أجبرت عدة أزمات متعاقبة الولايات المتحدة على شن حروب في مطلع التسعينيات ضد العراق، فيما عرف بحرب الخليج الثانية، قبل أن تعود في الألفية الجديدة لممارسة نفس الدور للخروج من أزمات مالية واقتصادية أخرى، والضحية كانت أفغانستان ثم العراق.
ببساطة، ومن تتبع ارتباط الأزمات الاقتصادية الحادة باللجوء إلى شن الحروب الكبرى، فإن العقل الأميركي الحريص على الربح دائمًا، لا يفوت فرصة حدوث أزمة ليصدرها إلى العالم في صورة تدخل عسكري وغارات، أو مؤامرات ينتج عنها حروب ضخمة، تتيح للمجمع الصناعي الأميركي العمل بكل طاقته.
يقول مايك ديفيس، المؤرخ والكاتب والناشط الأميركي، إن شرط استمرار العولمة الرأسمالية الحالية، بل واستدامتها، يعتمد على عنصر أوحد، وهو “قبول الفرز الدائم للعالم، ودفع جزء معتبر من الجنس البشري إلى الاختفاء في نهاية المطاف”.
أما كيف يحدث هذا، فيفسر الرجل الذي جعل التنقيب وراء أساليب الرأسمالية الغربية في بحثها عن البقاء محل اهتمامه وجل كتاباته، في أن العولمة الاقتصادية والتي تعني الحركة السيالة للتمويل والاستثمار وانتقال الأموال في السوق العالمية الواسعة، قد حدت -أو همشت تمامًا- من قدرة الطبقة العاملة على المقاومة والتنظيم والرفض، وقد سلبتها رعاية الحكومات للمستثمرين ودفاعها عنهم القدرة الطبيعية لأي طبقة عاملة على المساومة إزاء حقوقهم، وبالتالي بقدر ما وسعت من إمكانيات الربح وتكديس الثروات لدى القلة المحتكرة على صعيد عالمي، فقد كبلت العمالة بالقبول بعقود إذعان لصالح صاحب رأس المال، في عملية تراكمية نراها الآن في مليارديرات تفوق ثرواتهم كل ما أنتجه البشر طوال تاريخهم، مع زيادة صعوبة الحياة وضيقها على الطبقات الأفقر والأقل.
وعلى الجانب الآخر من النهر، والذي لأسباب كثيرة جغرافية وإنسانية وتاريخية، يموج مجراه في الشرق الأوسط بوقائع وأحداث متلاحقة متسارعة، بعضها بالتأكيد انعكاس للصراع العالمي الروسي الغربي، وصورة من صور امتداده الكوني، وبعضه الآخر بدايات ومنبع سياسات جديدة تتخذها الأطراف العالمية الكبرى لضمان مصالحها في هذا الأقليم المضطرب أصلًا باحتمالات الحرب والدم، يجدر بنا أن نقف موقف القراءة المتأنية للسياسات والنظرة الأميركية للعالم العربي، كما هي اليوم.
الدول العربية كلها، بما فيها دول النفط، لا تعد ذات أهمية للولايات المتحدة الأميركية اليوم، ولا كانت في أي يوم، إلا بمقدار ما هي قادرة على ضخه في شرايين الاقتصاد الغربي من نفط رخيص، فواشنطن التي سيطرت على الحكومات العربية منذ زمن طويل، بل وصادرت القرار الرسمي العربي، لا تأبه بشيء في الشرق الأوسط أكثر من ضمان أمن الكيان العدو.
ويمكن في هذا السياق فهم أو توقع محاولة أميركية هائلة لنقل جزء من حربها الكونية إلى منطقتنا، أو حتى المجيء جهارًا نهارًا، في استعراض للقوة واضح وقاطع، وهدفها منه هو تطويع الجميع مرة واحدة، وإدخالهم إلى الحظيرة الصهيونية، حيث قيادة المنطقة الجديدة.
والحرب الكونية الجديدة إذا وقعت وتمددت على الرقعة العالمية للصراع، فإن الأكثر بؤسًا فيها هم العرب، لانه ما من دولة عربية تمتلك ما يدفع عنها غول الدمار النووي، أو الصواريخ الثقيلة بعيدة المدى، ونحن بالتالي لا نمتلك قرارها، ولن ندخل هذه المسرحية إلا بدور وحيد، الضحية!
إن القراءة في تاريخ الصراعات البشرية، وأسبابها الحقيقية ومآلاتها، ليست بالضرورة عودة إلى الماضي ونبشًا في أحداث فات وقتها وزمانها، لكن القراءة الواعية في حد ذاتها محاولة دائبة لفهم ما يجري في ضوء ما جرى، وكيف يصدر لنا الغرب أزماته، ثم كيف نتطوع بحلها ولو على حساب حاضرنا ومستقبلنا.