المصارف بين الإضراب والإفلاس.. دفع باتجاه مزيد من الانهيار
موقع العهد الإخباري-
علي رسلان:
لم تكن معزوفة “القطاع المصرفي اللبناني القوي” تفارق أسماع اللبنانيين لسنوات طوال. المصارف التي نشأ أغلبها بعد العام 1943، نمت بسرعة قياسية. عددها ارتفع من 9 في عام 1945 إلى 85 مصرفاً عام 1962 مستفيدة من سياسة التأميم التي اعتمدت في كل من مصر والعراق وسوريا، وهروب الرساميل منها، بالإضافة إلى لجوء كبار المتمولين في فلسطين بعد العام 1948 إلى بيروت، وتدفقات أموال النفط الخليجية.
لبنان كان البلد الجاذب لهذه الرساميل، متسلحاً بالسرية المصرفية، ونشوء طبقة اجتماعية سياسية، مكونة من المصرفيين والتجار والصيارفة ورجال الأعمال شكّلت الدولة العميقة التي أحكمت الطوق على الدولة السطحية. كما سيطرت على مكامن صنع القرار في المؤسسات الدستورية، فبُنيت دولة مفصلة على قياس هذه الطبقة الآمرة الناهية بيد شخصيات وزعماء سياسيين تبوأوا أعلى المناصب في الدولة.
ولأنها كانت صاحبة اليد الطولى في صنع القرار السياسي والاقتصادي، لم تكن المصارف عُرضة للمساءلة والمحاسبة القانونية والقضائية. وعليه، عاثت بأموال المودعين استثماراً وإقراضاً ورشىً لسياسيين وإعلاميين، تحت إشراف مصرف مركزي موّل الدولة لسنوات طوال ضمن نهج اقتصادي ريعي قائم على الاستدانة والاستدانة إلى أن وصلت الأمور إلى حافة الانهيار في العام 2015. ولإنعاش الوضع النقدي أقدم المصرف المركزي على تنفيذ هندسات مالية جنت منها المصارف ما يفوق 5 مليارات دولار أرباحاً أُضيفت إلى أرباح فاحشة حصّلتها طوال سنوات ما بعد العام 1992.
ومع بروز طلائع الأزمة في العام 2019، أضرب الموظفون في مصرف لبنان بذريعة عدم التزام القضاء بالأصول القانونية بعد التحقيق مع مدير العمليات في المصرف. وبالتزامن بدأ سعر صرف الليرة بالتدهور، وبدأت المصارف باتخاذ قرارات عشوائية واستنسابية، رفعت من منسوب عدم اليقين لدى المودعين، فكان قرارها بتحديد سقف السحوبات، ووقف التحويلات إلى الخارج، وتجميد العمليات التجارية، وتحديد سقف أو إلغاء العمل بالبطاقات الائتمانية، وقيامها ببيع جزء من سنداتها من “اليوروبوندز” إلى دائنين أجانب، قبل أشهر من قرار الحكومة التوقف عن الدفع، ليحوز الدائنون الأجانب على نحو 15 مليار دولار من السندات، والمصارف المحلية على أقل من 11 مليار دولار ما أفقد الحكومة القدرة على تنظيم عملية إعادة هيكلة منظمة للدين العام.
هذه الإجراءات أدت إلى فقدان ثقة المودعين وعزّزت قلقهم على أموالهم المودعة، ما ولّد فوضى كثُرت معها الإشكالات في فروع المصارف. تلك الفوضى أعطت لهذه المصارف ذريعة لإقفال أبوابها لفترات طويلة، تارةً بسبب تفشي وباء كورونا، وطوراً نتيجة إضراب الموظفين، وصولاً إلى إعلان جمعية المصارف الإضراب أكثر من مرة بحجة عدم قدرتها على حماية موظفيها، قبل أن تعلنها جهاراً أن إقفالها هو لرفض القرارات القضائية ومنها رفع السرية المصرفية عن أصحاب ومديري عدد من المصارف، والتي صدرت بناءً على دعاوى مودعين. ومؤخراً، أعلنت جمعية المصارف أن لا سيولة لدى المصارف، وأن رصيدها لدى المصارف المراسلة سلبي وقدره 204 ملايين دولار، في حين أن ودائعها لدى مصرف لبنان بلغت 86.6 مليار دولار منتصف شهر شباط الفائت بحسب ميزانية المصرف المركزي.
الإضرابات المتتالية والإعلان عن عدم وجود سيولة لديها عوامل تؤكد أن المصارف تدفع باتجاه قعر الهاوية. الإضرابات منذ البداية زادت من عمق الأزمة وتجذرها أكثر. ومع كل إضراب أو إقفال تشهد الليرة انهياراً إضافياً. يُضاف إلى ذلك، المزاجية والاستنسابية في تطبيق التعاميم المتعلّقة بمنصة “صيرفة” اذ توقِفها متى تشاء وتعود إليها متى تشاء، في حين تقف هيئة الرقابة على المصارف موقف المتفرّج على ممارسات المصارف التي أتى إعلانها عن عدم وجود سيولة لديها كمقدّمة ربما لإعلان إفلاسها، أو كتهديد بالإفلاس، مع ما يعني ذلك من انهيار كامل المنظومة النقدية في البلاد.
تريد المصارف العودة إلى سابق عهدها كلاعب مسيطر لا يُسأل ولا يُحاسب، وتريد من الدولة إخضاع القضاء لسلطتها لا إخضاعها لسلطة القانون. وأيضاً لا تريد تحمل جزء من الخسائر من تلك الأرباح التي حققتها على مدار أكثر من 30 عاماً، ولا تريد إعادة مليارات الدولارات التي حولتها إلى الخارج، وهي قد تنجح في ذلك، طالما أنها ما زالت فاعلة وناشطة في منظومة الإفساد في الدولة العميقة.
لذلك، إنّ هيكلة القطاع المصرفي وتحميله حصته المنطقية من الخسائر لن تكون عملية سهلة، والمصارف تلعب على قاعدة “عليَّ وعلى أعدائي”، فإما كف يد القضاء وعدم إقرار أي قانون يُلزمها بإعادة الأموال لأصحابها، وإما الاستمرار في الدفع باتجاه الانهيار الكامل، ونجاحها في تحقيق أهدافها ليس مستحيلاً في ظل سلطة سياسية “غاطسة” حتى أخمص قدميها بوحول المصرفيين من خلال تأمينها الحماية الأمنية والقانونية والسياسية للقطاع المصرفي القوي.
وليس مستبعداً أن المصارف التي كانت ملكاً أكثر من الملك نفسه في الانصياع للعقوبات الأميركية، هي في تصرفاتها المذكورة آنفاً تنفّذ إملاءات خارجية لتحييدها من دائرة العقوبات، ولتمكين أصحابها من الحفاظ على أموالهم المهرّبة، وتنفيذ أحد بنود أجندة الانهيار الاقتصادي، المنضبط حتى الآن، والذي تسعى إليه الولايات المتحدة ومن خلفها دول غربية وإقليمية لكسر لبنان.