المشهد الدولي والإقليمي في ظلّ المواجهة الروسية الأطلسية في أوكرانيا
جريدة البناء اللبنانية-
زياد حافظ:
لا يمكن أن نتصوّر تداعيات المواجهة المفتوحة بين روسيا والحلف الأطلسي في أوكرانيا دون التوقف على الأسباب. فهذه الأسباب التي دفعت إلى المواجهة هي التي ستلقي بظلالها على المشهد العالمي والإقليمي. فجوهر الصراع هو صراع بين مذهبين في منظومة واحدة. المنظومة هي الرأس المالية والمذهبان هما أولا الرأس المالية الريعية المالية التي تقوده الولايات المتحدة والحلف الأطلسي وثانياً الرأس المالية الإنتاجية التي تتماهى مع الاقتصاد الموجه التي تقوده الكتلة الأوراسية بقيادة روسيا والصين.
بهذا التعريف للمواجهة نضمّ الأبعاد الجيوسياسية والدوافع التوسعية لدى المحور الأطلسي قابلتها الهواجس الأمنية لروسيا والصين. وفي الإطار الأوسع للمواجهة هناك نموذجان من داخل العائلة الواحدة يتنافسان على قيادة العالم والنموذج الذي تتبناه الولايات المتحدة يخسر لصالح النموذج الآخر.
يبقى علينا أن نستشرف ماذا بعد؟ والإجابة تتوقف على مسار العملية العسكرية القائمة في أوكرانيا ونهايتها. فالحلف الأطلسي وخاصة الولايات المتحدة غير متحمّسة على إنهاء الصراع بل على تمديده بهدف استنزاف روسيا عسكرياً واقتصادياً وفرض العزلة الدولية عليها. الهدف الأميركي بات واضحاً وهو تغيير النظام القائم في روسيا.
لكن الرياح الروسية لم تجر كما اشتهت السفن الأطلسية والأميركية. فمسار العملية العسكرية يدلّ بوضوح على أنّ النتيجة ستكون في منتهى السلبية للنظام القائم في أوكرانيا ومن خلال ذلك للحلف الأطلسي التي قد تكون ضُربت مصداقيته ضربة قاضية. فكيف ستكون تداعيات ذلك المسار على العالم بشكل عام والإقليم والمشهد العربي بشكل خاص؟
في هذه النقطة بالذات نريد أن نؤكّد أن قدرة روسيا على مواجهة الغرب لم تكن لتحصل لولا الصمود العربي خاصة في محور المقاومة. فالمقاومة في العراق أفشلت المشروع الأميركي واستنزفت قدراته بينما كانت روسيا تعيد بناء قواها العسكرية والاقتصادية. كما أنّ صمود المقاومة في لبنان منع تحقيق مشروع الشرق الأوسط الجديد بينما روسيا كانت أيضاً في إطار استعادة القدرات. كما أنّ صمود سورية في مواجهة العدوان الكوني ساهم في تعزيز الثقة بأنّ الغرب ليس قدراً على العالم. كما أنّ صمود المقاومة في فلسطين أفشل مشروع صفقة القرن والاتفاقات الابراهيمية وأنّ صمود اليمن ساهم في إعادة رسم الخارطة السياسية للأمن الإقليمي خارج النفوذ الأميركي. فهذا الدور العربي مكّن كلّ من روسيا والصين وحتى الجمهورية الإسلامية في إيران من تعزيز قدراتها وترسيخ تضمانها بل تحالفها والآن نرى روسيا تقف بوجه الهجمة الأطلسية في أوروبا الشرقية وتهزمها نيابة عن العالم. فلا بد للنظام العربي ان يتأثر بكلّ ذلك خاصة أنّ الجزء الخارج عن سيطرة ذلك النظام استطاع أن يقلب المعادلات التقليدية في الإقليم وبالتالي في العالم. هناك معادلة جيوسياسية بسيطة. من يريد السيطرة على العالم عليه أن يسيطر على الجزيرة الأوراسية لما لها من موارد وإمكانيات. ومن يريد أن يسيطر على تلك الجزيرة فالبوّابة لها هي المشرق بشكل عام والمشرق العربي بشكل خاص. هنا يبرز البعد الاستراتيجي لمحور المقاومة وما يمثله من دور في إعادة رسم التوازنات الدولية.
صحيح أنّ العملية العسكرية لم تضع أوزارها بعد عند إعداد هذا التقرير لكن هناك نتائج واضحة على الصعيد الدولي وبطبيعة الحال على الصعيد الإقليمي والعربي. أولى النتائج هو شبه إجماع على أنّ القوّامة الأميركية والأطلسية لم تعد كما كانت عليه. صحيح أنّ الولايات المتحدة لن تستسلم بسهولة إلى الواقع الجديد لكن ليس باستطاعتها تغيير موازين القوة والعوامل التي أدّت إلى ذلك التراجع. فهذه العوامل داخلية بالدرجة الأولى كما أنها خارجية تعود إلى التخطيط البعيد المدى الذي قامت بتنفيذه دول المحور الرافض للهيمنة الأطلسية والأميركية. فتقييم المشهد الداخلي لا يوحي بأن هناك إمكانية في تعديل الميزان. فليس هناك جهوزية عسكرية أميركية لمواجهة شاملة وحاسمة لكل من روسيا والصين كما أن قدرة اللجوء إلى الحرب بالوكالة عنها أصبحت شبه معدومة. فالتصدّعات داخل الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي لا توحي بإمكانية حشد قوّات عسكرية تستطيع مواجهة روسيا وذلك رغم الكلام العالي النبرة لمكوّنات الحلف الاطلسي. ليس هناك من استعداد للتضحية في سبيل أوكرانيا. فالخطة هي فقط الاستنزاف عبر تحفيز الأوكرانيين والمرتزقة من الأوروبيين على مواجهة الالة العسكرية الروسية.
كذلك الأمر على الصعيد الاقتصادي حيث كشفت جائحة كورونا التبعية للمواد الأساسية الموجودة في كلّ من روسيا والصين. والاتحاد الأوروبي منكشف تجاه روسيا في موضوع الطاقة ولا يستطيع الاستغناء عنها رغم التصريحات المعاكسة لذلك. فالبديل للغاز الروسي هو الغاز الأميركي بأسعار مرتفعة تصل إلى أكثر من عشر أضعاف سعر الغاز الروسي ناهيك عن عدم وجود تجهيزات لاستيراد الغاز الأميركي قبل ثلاث سنوات على أحسن تقدير. فماذا تستطيع ان تفعل الدول الأوروبية طيلة الفترة غير الدخول في انكماش كبير أن لم يكن في كساد أكبر مما كان في الثلاثينات من القرن الماضي؟
أما على الصعيد المالي لن تستطيع الولايات المتحدة وحلفاؤها من منع قيام أنظمة مدفوعات دولية لا ترتكز إلى الدولار. كما أن التعامل بالدولار بدأ بالتراجع في دول واقتصادات وازنة كالصين والهند وروسيا على سبيل المثال. حتى بعض الدول العربية التابعة للقرار الأميركي بدأت تفكّر جدّيا بالتعامل مع الروبل الروسي واليوان الصين والروبية الهندية.
بناء على ذلك نستطيع أن نقول إن نتائج العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا ستكرّس تراجع دور الولايات المتحدة وأوروبا في الهيمنة على مقدرات العالم.
اما النتيجة الثانية لذلك التراجع هو واقعياً بروز نظام دولي جديد متعدد القطبية يرتكز إلى القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن واحكام المحكمة الدولية إضافة إلى الاتفاقات والمعاهدات بينما الطرح الأميركي ومعه الأوروبي هو نظام «أحكام قيم» لا قاعدة قانونية لها وملتبسة في أحسن الأحوال ولا تعترف بسيادة الدول. وهذا النظام سيشهد تجاذبا بين الدول التي تريد الخروج من الهيمنة الأميركية وبين الدول التي لا تستطيع الخروج عنها وعددها يتقلّص يوما بعد يوم ولن يضم في آخر المطاف إلاّ الحلف الانكلوساكسوني، أي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا وكندا وربما نيوزيلاندا. أما أوروبا الغربية فهي عدة أقسام: المحور الألماني الفرنسي الذي يقود الاتحاد الأوروبي، دول أطراف أوروبا، ودول أوروبا الشرقية. ليس هناك من انسجام في المواقف داخل هذه الكتل الثلاث لأسباب عديدة تعود منها للتاريخ ومنها لبنيتها السياسية والاقتصادية لا وقت لنا شرحها. ما يهمنا هو أن عدم الانسجام سيحدّ من فعّالية موقف موحد. ولذلك سنرى أوروبا في تجاذب بين النظام المبني على القانون الدولي والمعاهدات وقرارات المحكمة الدولية وطبعا قرارات مجلس الأمن.
في ذلك السياق لا نستبعد إعادة النظر في تركيبة مجلس الأمن حيث الدول صاحبة حق النقض هي خمس فقط بينما قد تدخل إليه دول كالهند والبرازيل وجنوب إفريقيا ودولة عربية بالتداول مع الدول العربية وحتى الجمهورية الإسلامية في إيران. كما نتوقع تقليص دور ونفوذ الولايات المتحدة في المؤسسات العاملة والتابعة للمنظمة الدولية التي أصبحت ذراعا للسياسة الخارجية الأميركية. فهناك دول وازنة تستطيع أن تملأ الفراغ المالي الذي سينتج عن تخفيض مساهمة الولايات المتحدة في تمويل المؤسسة وربما خروجها من المنظمة ككل. لن يحصل ذلك في المنظور القريب بل ربما في فترة لا تتجاوز نهاية هذا العقد من الألفية الثالثة. كما أن منظمة الأمم المتحدة المعدّلة ستعمل بتنسيق واسع مع المنظمات الإقليمية وخاصة الآسيوية كمنظومة شانغهاي على سبيل المثال وليس الحصر. هذا يعني أن القضايا الدولية ستعالج من باب النظر بمصالح الجميع وعلى قاعدة رابح رابح وليس على قاعدة اللعبة الصفرية التي تفرضها والولايات المتحدة.
النتيجة الثالثة هو التحوّل إلى نظام اقتصادي عالمي جديد مبني على تكامل المصالح وليس على تصارعها أو تنافسها. فدول الجنوب الإجمالي أي كل الدول الإفريقية وأميركا اللاتينية والدول الاسيوية غير الصين والهند ستجد في العلاقات الدولية ما يساعدها على نهوضها والحفاظ على سيادتها بينما النظام الاقتصادي القائم مبني على تبعية الاطراف للمركز الذي هو الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص وعلى حساب مصالح تلك الدول.
النتيجة الرابعة هي تراجع دور الدولار في المنظومة المالية الدولية. فعملات أخرى كالروبل الروسي واليوان الصيني والروبية الهندية وفيما بعد الراند الإفريقي الجنوبي ستكون ركيزة الاحتياطات النقدية الدولية كما أن تعاظم التعاطي بالعملات الوطنية سيخفّض الطلب على الدولار ليصبح عملة من بين العملات وليست أداة لتمويل الحروب والهيمنة على العالم.
النتيجة الخامسة تعود إلى تراجع المكانة الصناعية الأوروبية. فرغبة قياداتها في التخلّي عن الغاز الروسي سيقضي على القدرة التنافسية الأوروبية ما يجعل الدول الأوروبية تدخل مرحلة تفكيك التصنيع (de industrialization) للدخول في مرحلة ما بعد التصنيع (post industrialization) فتصبح تابعة لمراكز التصنيع الفعلية في دول الجنوب الإجمالي.
هذه النتائج لن تأتي بسرعة ولكن مسارها واضح وحتمي إذا ما كانت الإرادة الجماعية تهدف إلى تحقيق الاستقرار والأمن. فلا بد من التعديلات في المؤسسات الدولية ولا بد من تعديلات في التعاطي والعلاقات ولا بد من ترسيخ قاعدة الرابح رابح ونبذ قاعدة اللعبة الصفرية. وما يساعد على تحقيق ذلك موازين القوّة الجديدة التي تظهرها العملية العسكرية في أوكرانيا والتحالف الروسي الصيني ونهوض الكتلة الاوراسية وتعزيز منظومة البريكس.
لكن إلى أن تحصل تلك التحوّلات فالعالم دخل فعليا في مرحلة ترقّب ومراجعات في العلاقات حيث العديد من الدول تقوم بتقييم النتائج المرتقبة من العملية العسكرية في أوكرانيا. لذلك سنشهد توترات عديدة في الأسواق العالمية في الطاقة والمواد الغذائية وسلسلة المورّدين إلى أن تستقر الأمور وتستسلم الولايات المتحدة للوقائع الجديدة. هنا تكمن المشكلة لان حالة الانكار بين النخب الحاكمة وأو الطامحة للحكم في الولايات المتحدة ما زالت تعتبر أن القدر المتجلّي للولايات المتحدة واستثنائيتها يجعلها موكلة بقيادة العالم. النظرة التوراتية للأمور تتحكم في اللاوعي الأميركي وهنا الخطورة من الانزلاق نحو حماقات كارثية خاصة أن الهروب إلى الأمام هو السبيل الوحيد عند تلك النخب. الرهان لعدم حدوث ذلك هو على تيقّن العقول الباردة، وهي موجودة ولكن معزولة، في التغلّب على موجة الجنون الجماعي التي تتحكّم بتلك النخب. وبالتالي قد لا نستبعد حصول تغييرات داخل البيت الأبيض وفي منظومة الحكم بعد الإخفاقات الكارثية التي حققتها الإدارة الحالية.
أما على الصعيد الإقليمي فنتوقع تحوّلات كبيرة في الملفات الساخنة كفلسطين المحتلة وسورية واليمن. كما نتوقع ترسيخ قواعد لنظام عربي جديد قد يأخذ ما تبقّى من العقد الحالي حتى منتصف العقد القادم، أي منتصف الثلاثينات من القرن الحالي.
فعلى صعيد فلسطين فإن الكيان الصهيوني الاستيطاني المحتل يواجه أزمة وجود بحدّة لم يألفها منذ إقامته. فالخطر الوجودي الذي يشعر به بسبب فقدان الأمن وعبثية الرهان على تطبيع مع أنظمة لا تستطيع أن توفر الأمن للكيان يتلازم مع ارتفاع وتيرة المواجهة المسلحة من أبناء فلسطين. فتداعيات العملية العسكرية في أوكرانيا عرّت المواقف الغربية في توفير الحماية لأوكرانيا في مواجهة روسيا. والدرس بات واضحا للقيادات الصهيونية أن وعود الغرب لا تتجاوز الحبر على الورق وأن الغرب لن يقاتل في سبيل ما هو أهم من الكيان. فمستقبل أوروبا أهم من الكيان وتبيّن أن القادة الأوروبيين لن يقاتلوا في سبيل تصوّراتهم لأوروبا. فهل يعقل أن أوروبا ستقاتل في سبيل كيان تتشوّه سمعته يوما بعد يوم وتظهر على حقيقته البغيضة؟ وكذلك الأمر بالنسبة للولايات المتحدة التي أعلنت أنها لن تقاتل مع الكيان في مواجهة الجمهورية الإسلامية في إيران وأنها لن ترسل إلا السلاح للكيان وكأن مشكلة الكيان هي الضعف في التسليح. كما أن الولايات المتحدة لن تقاتل من أجل أوكرانيا وفقا لتصريحات قادتها. تداعيات الازمة الأوكرانية ستكون وخيمة على الكيان خاصة وان قادته كانوا مربكين في اتخاذ موقف من الأزمة. وعندما حسم الكيان تردّده ووقف مع الحكومة الأوكرانية ضد روسيا فإن لذلك تداعيات مباشرة على العلاقة بين الدولتين وخاصة في مقاربة المشهد العسكري في سورية.
من جهة أخرى نرى تحولين أساسيين في المشهد الفلسطيني. فنهاك تصاعد ملموس في المواجهة الشعبية الفلسطينية مع قوى الاحتلال تجلّى بتطوّر ملحوظ في طبيعة المواجهات. فبعد موجة المواجهات بالحجارة والدهس والطعن بالسكاكين برزت المواجهة بالسلاح الناري. لن نسترسل في مقاربة هذه التطوّرات لضيق المساحة بل نكتفي بملاحظة ظهورها مع العملية العسكرية في أوكرانيا ما يدل أن الشعب الفلسطيني يشعر بضعف الحلف المعادي له فيتجرّأ على الاقدام على عمليات لم تكن مألوفة.
أما التحوّل الثاني فهو تثبيت القوى الردعية لفصائل المقاومة في غزة ما يتيح الفرصة لانتفاضة شعبية ضد قوى الاحتلال في مختلف أنحاء فلسطين المحتلة. كما أن المقاومة وضعت الخطوط الحمراء فيما يتعلق بمستقبل القدس والاحياء العربية التي ما زالت تقاوم عمليات التهجير وأيضا فيما يتعلق بمحاولات المستعمرين لاقتحام الأقصى. أيضا القوّة الردعية للمقاومة تعزّزت مع الشعور بأن الحلف المعادي يعاني من الضعف ما يجعل آفاق النصر أكثر وضوحا وقربة.
ومن تداعيات العملية العسكرية في أوكرانيا الارباك في النظام التركي الذي تردّد بين مصالحه مع روسيا والشرق بشكل عام والتزاماته الأطلسية. لكن الضعف الأطلسي ستجعل تركيا أكثر استجابة للضغوط الروسية والإيرانية في الملفّ السوري خاصة أن أوراق الضغط الروسي ليست ضعيفة كصواريخ أس 400 والتدفق السياحي الذي يشكل خشبة الخلاص في الأزمة الاقتصادية التي تشهدها تركيا. فالخروج من سورية أصبح ضرورة لتجنّب التداعيات السلبية من رفض احترام السيادة السورية على أراضيها.
والتداعيات للعملية العسكرية في أوكرانيا تأتي في سياق أخفاقات كبيرة للسياسة الأميركية انعكست على سلوك العديد من الدول العربية المحسوبة على الولايات المتحدة والتي تدور في فلكها. ويمكن وصف الحال في تلك الدول بداية جادة لمراجعة العديد من مواقفها وتحالفاتها ومقارباتها للعديد من الملفات التي ساهمت في انقسام البيت العربي. نذكر في هذا الإطار الامتناع عن التصويت في الجمعية العمومية للأمم المتحدة لصالح قرارات تدين روسيا. كما نذكر عدم الموافقة على فرض عقوبات اقتصادية ومالية على روسيا. بل العكس نجد حكومات هذه الدول تفكّر جدّيا بالانفصال عن الدولار في تسعير براميل النفط التي تصدّرها وبدأت تدرس إمكانيات التعامل بالروبل الروسي واليوان الصيني. هذه الإشارات الصريحة لم تكن واردة منذ بضعة أشهر ونضعها في خانة تداعيات العملية العسكرية في أوكرانيا التي عرّت الأطلسي وأظهرت ضعفه وعجزه. فالدول العربية التي كانت تتبنّى نظرية ملكية ال 99 بالمائة من أوراق اللعبة الدولية بيد الولايات المتحدة بدأت بمراجعة لتلك النظرية.
وهذه المراجعة التي تأتي في سياق مشاهدة التراجعات الأميركية في أفغانستان وفي مفاوضاتها غير المباشرة مع الجمهورية الإسلامية في إيران في الملف النووي تدفع الدول المتخاصمة مع إيران إلى مفاوضات ما زالت في بدايتها والتي كانت غير ممكنة منذ سنة أو أكثر. كما أن المراجعات في الملفات المتعلقة بسورية واليمن والعراق ولبنان قد تصل إلى انفراجات ضرورية للنهوض من الحالة الكارثية التي تعيشها الدول. كل ذلك لم يكن ممكنا لولا وضوح الإخفاقات الأميركية في أوكرانيا التي لم تكن لتحصل لولا القدرات الروسية وحلفها مع الصين. فهذه القدرات كما أشرنا في البداية لم تكن لتقوم لولا صمود القوى المقاومة العربية في كل من العراق ولبنان وفلسطين وسورية واليمن.
الإخفاقات الأطلسية في أوكرانيا تتلازم مع التصعيد في المواجهة الشعبية في فلسطين ما يلغي جدوى التطبيع مع الكيان المحتل. فإذا كانت الأوراق بيد الولايات المتحدة غير فاعلة فإن البوّابة للحصول على الرضى الأميركي أي الكيان الصهيوني المحتل لم تعد ضرورة. هذا لا يعني التراجع الفوري أو القريب عن التطبيع بل سنرى اشتداد المقاومة الشعبية للتطبيع دون ان عوائق كبيرة ما يفرغ التطبيع من مضمونه.
أما في الساحة السورية فسنرى تصعيدا في المواجهة مع قوى التعصّب والغلو والتوحّش المحتشدة في إدلب وجوارها كما سنرى تصعيدا في مواجهة القوى المتحالفة مع الولايات المتحدة في شرق سورية ومواجهات متصاعدة مع القوات الأميركي التي ستخرج في نهاية المطاف في كل من سورية والعراق. الإخفاقات في أوكرانيا لن تمكن الولايات المتحدة في الاستمرار في العراق وسورية ومواجهات محتملة مع الحلف السورية الروسي.
وأخيرا فيما يتعلّق باليمن فقوى التحالف العدواني على اليمن مضطرة إلى إنهاء العدوان والتفاهم مع القوى اليمنية الصامدة. اما الحل السياسي للمشكلة اليمنية فهو في الحوار بين مكوّنات الشعب اليمني وليس عبر إملاءات خارجية سواء كانت دولية أو غربية أو إقليمية.
المراجعات والتحوّلات الميدانية في المشرق العربي وتراجع موجة التطبيع ستفرض حتما مراجعة للنظام الإقليمي العربي. من المبكر التكلّم عن شكل النظام الجديد بل نكتفي بالقول ان قاعدته ستكون المربع السوري العراقي الجزائري اليمني، وفيما بعد دول الجزيرة العربية بقيادة اليمن وبلاد الحرمين، ثم بلاد وادي النيل والتشبيك المتزايد بي مصر والسودان، وأخيرا دول المغرب الكبير محوره الجزائر والمغرب. وركيزة ذلك النظام هو التشبيك الاقتصادي والسياسي بين دول المجاورة في الأقاليم العربية ولكن لذلك حديث آخر في مناسبة منفصلة.