المستحيلات الثلاثة «داعش»، «إسرائيل» و«حزب الله»
من المفترض أن يكون المستحيل قد تحقق.
ما كان أحد يتوقع أن تصبح دولة «داعش» أكبر من سوريا، بلمح البصر، وأن يخر العراق على قدميه، مستغيثاً بـ«غيرة الدين» لدفع الغزوة. ما كان أحد يظن أن هذا المستحيل سيقع، وأن تقع بغداد على تخوم السقوط.
قبل قرن من الزمن، ما كان أحد يتوقع أبداً، أن تتحوّل «داعش» الصهيونية، التي تأسست «قاعدتها» على يدي تيودور هرتزل، إلى خطة نظامية دقيقة، تستولي فيها على فلسطين، وتصبح دولة صغيرة أقوى من دول عربية بمئة مليون عربي… هذا مستحيل تحقق، على يدي قادة ميدانيين. كان من المستحيل تصوّر «صليبية يهودية» بقيادة «ارغون» و«الهاغاناه»، تجمع اليهود من شتات عالمي لتقيم دولة لهم في «أرض بلا شعب»، كما ادّعت. مستعينة بذلك، بعقيدة توراتية خلاصية، لإقامة مجتمع يهودي نقي، مدعوم من كارهي اليهود ومعذبيهم ومضطهديهم على مدى قرون.
عقيدتان أصوليتان، فازتا بتحقيق المستحيلين: أصولية يهودية حديثة ولكن استئصالية، تمارس إرهاباً منظماً محتضناً من غرب رأى في العقيدة الصهيونية، عقدة خلاص من الإثم اليهودي في الغرب، حل أزمته على حساب الشرق في فلسطين… هي من جنس «داعش» توراتي، يطمح إلى دولة من النيل إلى الفرات، أثمر دولة في فلسطين، هي الأصغر بين الدويلات العربية الكبرى والركيكة، ولكنها الأقوى، بما لا يقاس.
من المفترض أن يكون المستحيل الثالث قيد الإنجاز. الأعداء جداً، يتقدمون المشهد، لخوض حرب معاً، ضد الإرهاب وضد «القاعدة» وفروعها، وضد «داعش» التي قيل إنها انشقت عن أمها القاعدة، بإغراء سعودي… شيء من الغش البنّاء، في معركة السعودية ضد إيران وسوريا. من المتوقع أن تضم «الجبهة العالمية» لمحاربة الإرهاب، أميركيين وإيرانيين (معا!) وآخرين، أمضوا عقوداً من العداء في خنادق بلا هدنة.
من المفترض أيضاً، أن يكون المستحيل الثالث قد برهن على جدارته في الميادين. حزب الله، يخوض حرباً على «داعش» و«النصرة»، ما يؤهله ليكون في حسابات الدول الغربية، الحصان الرابح، بسبب ما أنجزه حتى الآن ميدانياً… لم يعد يُنظر إليه على أنه «إرهابي». كلام وزير الخارجية الأميركي جون كيري في بيروت فصيح جداً. «حزب الله» وروسيا وإيران. من يصدق ذلك؟
من غير المستبعد أن تنضم إسرائيل، على طريقتها، إلى هذه الجهة، فيتحقق المستحيل الأكبر.
في الجهة المقابلة، من المفترض ألا تضم «جبهة محاربة الإرهاب»، حلفاء مزمنين لأميركا والغرب. فعدد من دول الخليج، المحظية بالقواعد الأميركية وما توفره من غطاء أمني وحماية سياسية ودعم إقليمي، تنظر بعين الرضى لاجتياحات «داعش» في العراق ومعاركها في سوريا، برغم استشعارها لخطر «القاعدة» و«داعش» عليها مستقبلاً. هذه الدول التي تتموضع في حلف السنّية السياسية الرسمية، تفضل عراقاً سنياً على عراق شيعي، ولو كان ذلك على يدي أعدائها المحتملين.
الشرق الأوسط الأول انتهى. شرق ما بعد سايكس ـ بيكو بحدوده، لم يعد موجوداً. شرق ما بعد قيام إسرائيل وحروبها، على وشك النهاية. شرق كوندليسا رايس، أسفر عن تذرّره وغرقه في ما لم يكن في حسبان أحد… لم يعد هذا المشرق يشبه أي حقبة من تاريخه، لا من جهة دول الغرب وإسرائيل، ولا من جهة الأحلام والأحزاب والأنظمة العربية. يكاد المشرق، في هذه اللحظات التراجيدية، يكون استعادةً لشريط انتقائي من أحداثه، يبدو الآن مكتظاً بالاجتياحات والديانات والمذاهب والأعراق والمطامع والحملات. يشبه سيرة «الحشاشين» و«شيخ الجبل»، والقرامطة والعدم اليقيني، والصليبيين وقيامة الدنيا. يبدو المشرق على عتبة المئة عام من الحروب الدينية، بين السنة والشيعة، في حرب استنزاف وحروب تموضع، بأريحية قاتلة، ترى في الناس وقوداً لحريق يرثه الرماد.
لا حدود، لا دول. لا أحزاب. لا أنظمة… هذه مفردات تنتمي إلى شرق متقلقل ولكنه كان موجوداً، إلى أن دخل العدم الديني والمذهبي.
هذا الشرق الأوسط الجديد، هو «المسخ الكوني» الذي جعل المستحيل الثالث مطلوباً وممكناً.
شرق المستحيلات يتحقق. «إسرائيل»، هي الدولة الوحيدة التي تنبهت للقادم الجديد إلى الساحة، ورأت فيه خطراً عليها وعلى أعدائها معاً، هو خطر «القاعدة». في العام 2001، أصدر افراييم هاليفي كتابه: «مذكرات رجل في الظل»، رصد فيه نتائج خبرته في «الموساد» التي ترأسها لأعوام، وعمل فيها في عهد حكومات رابين وشارون وشامير ونتنياهو وباراك، وعاصر عواصف المنطقة ومفاوضاتها وإخفاقاتها وانتشار العنف فيها وانعدام الحلول. كتاب مليء بالأحداث والأسرار، إلا أن الفصل الأخير منه، يتضمن تفكيراً في ما أسماه «إبداع المستحيل».
يشرح هاليفي هاجسه الكبير. «القاعدة» خطر ينتشر وقوته في عدميته وكونه يتأسس على عقيدة العداء للجميع، أي لكل من لا يشبهه. يدمِّر ولا ينتصر. التدمير واجب لأنه مؤسس على التكفير. و«القاعدة» تكفّر العالم. وهي ضد الجميع، من دون تمييز. كل ما عداها كفر. هي عدو العالم. وعليه، فهي خطر على إسرائيل وعلى أصدقائها وعلى أعدائها كذلك. أي هي خطر على «حزب الله» و«حماس» والأنظمة التي تدعمها. وهي، بالإضافة إلى ذلك، لا تضبط إيقاع أفعالها ومعاركها وعملياتها بقواعد اشتباك أو بحسابات الربح والخسارة. لذا هي أشد خطراً من «حزب الله» العدو القوي و«الإرهابي» لأن «حزب الله»، كما «حماس»، يتقيدان بقواعد الاشتباك وحسابات الربح والخسارة. والشواهد كثيرة، أبرزها انسحاب إسرائيل من غزة على مرمى بنادق «حماس»، ولم تطلق رصاصة واحدة عليها.
فمن مصلحة إسرائيل وأميركا وإيران و«حزب الله» و«حماس» تكوين جبهة من الأعداء، لمحاربة «القاعدة».
بعض هذا المستحيل، رأى النور، قبل اجتياحات «داعش» في سوريا والعراق. وها هو يتقدم بعرض إيراني وقبول ضمني أميركي، لمنازلة الإرهاب معا، كل على طريقته.
من كان يمكنه تصوّر هذا المستحيل؟
من كان يمكنه أن يجيب عن السؤال: أيهما أشد خطراً، إسرائيل أم «داعش»، وان تتصدر الأخيرة المرتبة الممتازة والأولى؟
إن تاريخاً جديداً بدأ مرة أخرى، مع «داعش»، الخسائر من صنف الكوارث. بعضها الآن: لا دولة في العراق. لا دولة في سوريا، لا دولة في لبنان، لا شعب. لا عروبة. لا قضية، لا فلسطين. لا… شيء واحد قد استيقظ وليس مرشحاً للقيلولة: حروب عدمية، تستعيد إرث الفتنة الكبرى، ولا «فرقة ناجية» أبداً، باستثناء إسرائيل.
صحيفة السفير اللبنانية – نصري الصايغ