المحكمة الجنائية الدوليّة: هل تمّ عزل بوتين دولياً؟
موقع قناة الميادين-
ليلى نقولا:
رأى العديد من وسائل الإعلام الغربية أن القرار المتخذ ضد الرئيس الروسي “يجعل روسيا دولة منبوذة ويعزل بوتين دولياً”، ولكن كيف سيتم التعاطي مع هذه القضية على أرض الواقع؟
أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي مذكّرة توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مدعية وجود “أسباب معقولة” للاعتقاد بأنَّه ومفوضة حقوق الأطفال ماريا ألكسييفنا لفوفا بيلوفا يتحملان مسؤولية “الترحيل غير القانوني” للأطفال الأوكرانيين.
هذه هي المذكرة الأولى التي تصدرها المحكمة الجنائية الدولية بشأن جرائم حرب مزعومة ارتكبت في حرب أوكرانيا، وهي واحدة من المناسبات النادرة التي تصدر فيها المحكمة أمراً بحق رئيس دولة في منصبه.
وقد رحَّب العديد من الأوروبيين والأميركيين بهذا القرار، ورحّب الرئيس الأميركي جو بايدن بهذا الاتهام، معتبراً أن بوتين قام بالفعل بالعديد من جرائم الحرب في أوكرانيا، فيما اعتبر العديد من وسائل الإعلام الغربية أن هذا الأمر “يجعل روسيا دولة منبوذة، ويعزل بوتين دولياً”.
هل هذا القرار يجعل بوتين معزولاً فعلاً؟
ترتكز علاقة المحكمة الجنائية الدولية بالدول على مبدأين أساسيين: أولهما مبدأ التكامل، والآخر مبدأ التعاون.
في الواقع، كل واحد من هذين المبدأين يرتّب التزامات عدّة على الدول الأطراف في نظام روما الأساسي. ويمكن أن يمتد اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ليشمل رعايا دول غير أطراف في نظام روما الأساسي في حال ارتكابهم إحدى الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة في إقليم دولة طرف، وهو ما حصل في القضية الأوكرانية، إذ إن روسيا ليست عضواً في نظام المحكمة، ولكن أوكرانيا (وهي ليست عضواً أيضاً) قبلت صلاحية المحكمة على أراضيها.
ومن المهم الإشارة الى أن المحكمة الجنائية الدولية، على عكس المحاكم الوطنية، لا تملك سلطات تنفيذ مباشرة للقانون. وبناء عليه، لا تستطيع المحكمة أن تنفّذ أمراً بالقبض على أي شخص أو تفتيش منزل أو منشأة أو إجبار الشهود على المثول أمامها، بل تعتمد على السلطات الوطنية في تنفيذ ذلك. لذا، يبقى الأمر منوطاً بتعاون الدول معها، ما يعني أن الدول التي سيزورها بوتين تبقى مخيّرة بتنفيذ الاستنابة القضائية.
وفي هذا الإطار، يمكن تقسيم المواقف إلى إطارين: الدول الأعضاء في نظام روما الأساسي، والدول غير الأعضاء.
– في ما خص الدول الأعضاء في المحكمة
على الرغم من أن نظام روما الأساسي يؤكد وجوب تعاون الدول الأعضاء مع المحكمة تعاوناً كاملاً، فإنَّ الأمر يبقى مرهوناً بإرادة الدول التي تقرر ما يناسبها انطلاقاً من مبدأ السيادة، وهو مبدأ آمر أعلى من سلطات المحكمة الجنائية الدولية التي “تتكامل” مع الدول ولا تمتلك سلطات أعلى منها.
وفي هذا الإطار، وفي سابقة مهمة، رفضت جنوب أفريقيا عام 2015 (كانت حينها عضواً في نظام المحكمة الجنائية الدولية) إنفاذ مذكرة المحكمة الجنائية الدولية بشأن اعتقال الرئيس السوداني عمر البشير وتسليمه خلال زيارته جنوب أفريقيا.
اعتبرت جنوب أفريقيا حينها أنها لا ترى أي “واجب” عليها بموجب القانون الدولي والتزاماتها بموجب نظام روما الأساسي يقضي باعتقال رئيس دولة في منصبه. وبعد خلاف مع المحكمة في هذا الأمر، قررت جنوب أفريقيا الانسحاب من المحكمة عام 2016، معتبرة أن انضمامها إليها يمسّ بسيادتها ويحدّ من قدرتها على الوفاء بالتزاماتها المتعلقة بمنح الحصانة الدبلوماسية.
– في ما خص الدول غير الأعضاء في المحكمة
قد تجد الدول غير الأطراف في المحكمة نفسها ملزمة بالتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية والمدّعي العام، وتقديم كل ما يلزم لهما من مساعدة وتسهيلات، وذلك في حالتين:
أ – إذا كانت القضية موضوع الاتهام قد حُولت إلى المحكمة عبر مجلس الأمن الدولي بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وهذه ليست الحالة في القضية الأوكرانية الحالية.
ب – إذا أبدت الدولة غير الطرف استعدادها وقبلت على أساس ترتيب خاص أو اتفاق يبرم بينهما وبين المحكمة الجنائية الدولية أن تتعاون مع المحكمة مؤقتاً في ما تجريه – أي المحكمة – من تحقيقات ومقاضاة بخصوص جريمة محددة أو قضية بالذات. وهنا لا يكون مصدر التزام الدولة غير الطرف مع المحكمة في هذا التعاون نظام روما الأساسي، إنما الاتفاق المبرم بين الدولة غير الطرف والمحكمة.
في هذا الإطار الأخير، من الصّعب جداً أن تقوم دولة غير عضو بتوقيع اتفاق مع المحكمة لتسليم رئيس دولة ثانية خلال فترة ولايته للمحكمة لتتم محاكمته، وخصوصاً إذا كان هذا الشخص رئيس دولة كبرى مثل روسيا. والسؤال: ما الذي سيدفع بوتين إلى زيارة دولة محفوفة بالمخاطر؟
في النتيجة، وفي ظلِّ اتجاه عالمي مؤكد لسقوط هيمنة الغرب والأحادية والتوجه نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب، إذ ستختلف المعايير فيه عن المعايير الغربية التي تمّ فرضها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، تبدو سردية عزل بوتين دولياً إعلاناً غربياً إضافياً وتسويقاً لانتصار لا يمكن أن يُصرف فعلياً على أرض الواقع.