المجلس العدلي: أسبابه الموجبة وأصول المحاكمة أمامه
موقع العهد الإخباري-
هاني ابراهيم:
“احالة الملف الى المجلس العدلي” عنوان يتناهى الى مسامع اللبنانيين عند كل حادثة أو جريمة ترقى الى مستوى الوطن، وهذه الإحالة هي حصرًا بيد الحكومة من خلال سلطة استنسابية واسعة تملكها هذه الأخيرة وتوصف من خلالها الجريمة، طبيعتها، نتائجها وتاثيرها على الدولة ككيان متماسك، وما اذا كانت تمس بالسلم الأهلي أو الأمن الداخلي وأمن الدولة وتضعها بين يدي هذا المجلس.
لذا، اكتسب المجلس العدلي أهميته بالنظر للقضايا التي تحال اليه والتي عادة ما تكون ملفات تنال من هيبة الدولة وأمنها الداخلي والخارجي، فبحسب نص المادة 356 من قانون أصول المحاكمات الجزائية ينظر المجلس العدلي في الجرائم المنصوص عليها في المواد من 270 حتى 336 من قانون العقوبات وهي كثيرة بعددها متنوعة بماهيتها مختلفة بنتائجها ومنها الجرائم الواقعة على أمن الدولة كالخيانة – التجسّس – الصلات غير المشروعة بالعدو – الجرائم الماسّة بالقانون الدولي – النيل من هيبة الدولة ومن الشعور القومي – جرائم المتعهدين – الجنايات الواقعة على الدستور – اغتصاب سلطة سياسية أو مدنية أو قيادة عسكرية – الفتنة – الإرهاب – الجرائم التي تنال من الوحدة الوطنية.
اعتبر البعض أن سبب الذهاب نحو هذا النوع من المحاكم هو الحاجة الى البت السريع بالجرائم بالنظر لأهميتها وحساسيتها وكونها تتصل بالأمن، وهيبة الدولة تستدعي هذا الأمر.
كل ذلك حفظ للمجلس العدلي موقعًا خاصًا في النظام القضائي اللبناني يجعله في مصاف المحاكم العليا.
ولكن هل انشاء هذا المجلس حصل مؤخرًا بسبب ما تعرض له لبنان من اعتداءات وأصاب اللبنانيين من جرائم تفجير واغتيالات؟
يعود انشاء المجلس العدلي لبداية عهد الانتداب الفرنسي في لبنان، حيث أصدر في حينه حاكم لبنان الكبير قراره رقم 1905 تاريخ 12 أيار 1923 بإنشاء محكمة استثنائية تحمل اسم المجلس العدلي وذلك للنظر في جرائم القتل التي حصلت بعد 5 نيسان 1923 في الأراضي اللبنانية.
ومنذ تاريخ انشائه حتى الآن، خضع قانون انشاء المجلس الى العديد من التعديلات التي يفوق عددها السبع مرات، وطالت الكثير من نصوصه ومواده حيث تم تعديلها بما يتناسب مع تطور القوانين البديهية.
ما هي آلية عمل المجلس العدلي وأين دور المحقق العدلي في هذه الآلية؟
تبدأ مهمة أو صلاحية المجلس العدلي من تاريخ اصدار مرسوم عن مجلس الوزراء عند احالة ملف معين إليه، ما يعني استحالة امكانية وضع يد المجلس العدلي حكمًا بمجرد حدوث احدى الجرائم الداخلة ضمن اختصاصه. في هذا الاطار وبالتالي وعند صدور هكذا مرسوم، عندها يحق للنيابة العامة لدى المجلس العدلي، وهي في هذا الوضع النيابة العامة التمييزية، أن تمارس دور الادعاء بالجريمة لدى المحقق العدلي وتحيل إليه ملف التحقيقات.
وفي حال عدم وضع اليد قبل قرار الاحالة من الحكومة، فإن ذلك يجعل من هذه المحكمة استثنائية بامتياز من جهة كما ويجعلها مرهونة للسلطة التنفيذية. ولبنان بلد قائم على الفصل بين السلطات أو التعاون اللازم فقط، ما يعني أنها بتعبير آخر محكمة استثنائية سياسية مقيدة.
مع الاشارة هنا الى وجود العديد من المحاكم الاستثنائية التي تستطيع وضع اليد بمجرد وقوع الجرم دون حاجة الى أي قرار احالة من الحكومة، والأمثلة عديدة وأهمها المحكمة العسكرية.
تجرى المحاكمة أمام المجلس العدلي وجاهية كانت أم غيابية وفقاً لأصول المحاكمة لدى محكمة الجنايات، ويصدر المجلس حكمه وفقًا للأصول ذاتها. وأحكام المجلس العدلي مبرمة ولا تقبل أي طريق من طرق المراجعة العادية وغير العادية، وهذا ما يعطي هذه الأحكام القوة، حيث إن القوانين الخاصة بالعفو وفي حال صدورها عادة ما تستثني الجرائم المحالة على المجلس العدلي.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذه الحالة، هو هل يعتبر ذلك أمرًا طبيعيًا وعادلًا؟ ألا يحرم ذلك المتهم من إثبات براءته في حال ظهور أي أدلة أو مستندات أو وقائع تبين عدم علاقته بواقعة معينة أو بالجرم الذي أدين فيه؟
أثبتت التجارب أن في ذلك حرمان المتهم من طرق المراجعة على حد سواء عادية أو غير عادية، وفيه اجحاف بحق المتهم والعدالة، خاصة بعد صدور عدة قرارات ترفض طلب إعادة المحاكمة أو الاعتراض.
إلا أنه بعد تعديل المادة 366 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، بموجب القانون رقم 711 تاريخ 9/12/2005، أصبح بالامكان اللجوء الى طرق الطعن من اعتراض واعادة محاكمة لا سيما بعد حادذة جريمة اغتيال ديبلوماسي اردني في لبنان، ثم ظهور براءة المحكوم عليه الفلسطيني يوسف شعبان من جريمة الاغتيال وذلك بعد تحقيقات ومحاكمات وظهور مرتكبي الجريمة الفعليين ومحاكمتهم أمام القضاء الأردني.
وبالتالي، يصبح بالامكان طلب إعادة المحاكمة من خلال تقديم طلب أمام المجلس العدلي نفسه الذي يعتبر المرجع المختص بالنظر في طلب إعادة المحاكمة للأحكام الصادرة عنه كما تبين لنا المادة 366 مكرر.
أما فيما خص المحقق العدلي، فهو يتميز بصلاحيات واسعة للتحقيق وإصدار جميع المذكرات التي يقتضيها التحقيق فضلا عن دوره الاساسي باصدار مضبطة الاتهام أو الظن، مع الاشارة هنا الى أن قراراته في هذا الشأن لا تقبل المراجعة بعكس قضاة التحقيق في القضاء العدلي حيث هناك العديد من الأصول للمراجعة.
بعد الانتهاء من هذه التحقيقات تعطي النيابة العامة التمييزية المطالعة في الأساس ويقرر المحقق العدلي بحسب تحقيقاته واستجواباته إما منع المحاكمة عن المدعى عليه وبالتالي تركه حرًا، وإما اتهامه وإحالته موقوفًا في حال كان ماثلًا أمامه وإما اتهامه غيابيًا في حال كان فارًا ومتواريًا عن الأنظار على المجلس العدلي.
ماذا لو تبين فيما بعد أن نقصًا ما ظهر في تحقيقات المحقق العدلي وأن اتهامه لبعض الأشخاص انتفى بعد ظهور أدلة جديدة في هذا الاطار؟
طبعًا يبقى أمام المتهم اجراءات المحاكمة أمام المجلس، حيث يستطيع إبراز أي أدلة أو مستندات تساعد على إظهار الحقيقة بشكل فعلي والتي تكون موجودة أمام المحقق العدلي أثناء التحقيقات.
لكن السؤال الذي يتبادر الى الذهن، وانطلاقا من كون هذه المحكمة انشئت لأغراض حددها القانون ويتعلق معظمها بالرأي العام، الى أي مدى تعتبر التحقيقات التي يجريها المحقق العدلي سرية؟ وهل يمكن له الافصاح عنها كلها أم عن جزء منها فقط؟
طبعًا، ذهب الكثيرون الى الحسم بأن التحقيقات الجارية أمام المحقق العدلي هي سرية من الناحية الأساسية، ولكن يتبين للمتابعين أنه لمعرفة أجواء التحقيقات فلينظر الى التوقيفات وطبيعتها، ولذا واذا ما اردنا أن نضع ملف تفجير مرفأ بيروت كمثال، فإن معظم التوقيفات طالت موظفين عامين وضباطا امنيين سواء علموا أو كانوا معنيين في تخزين ومراقبة وحراسة المواد التي انفجرت.
وانطلاقًا من ذلك، فرضية الاهمال والتقصير هي الأكثر ترجيحا، لذا، فان التحقيقات الحالية كما والمحاكمة التي ستحصل لاحقًا سوف تتأثر بهذه الفرضية وتكون هي الأساس إن لناحية أنواع الجرائم الملاحق بها أو لناحية الأشخاص المعنيين بهذه الجرائم، وأخيرا لناحية الصلاحية في المحاكمة.
لذلك ذهب الكثير من الباحثين والقانونين الى التوقف مليًا عند مدى تناسب النصوص القانونية لناحية العقوبات من جهة وفداحة الجريمة من جهة مقابلة ما يعني أننا بحاجة الى اعادة نظر تشريعية جدية بنظام المجلس العدلي وادخال تعديلات ضرورية واخراجه من القيود المختلفة.