المبادرة الروسيّة حول سورية: أسئلة وحساب الأرباح والخسائر
الصحيفة البناء اللبنانية ـ
العميد د. أمين محمد حطيط:
في لحظة حرجة اخرجت روسيا مبادرة «نزع الذرائع» لتعطل التهديد الاميركي بالحرب على سورية تلك الحرب التي كنا نرى انها لن تقع الا في حال قرار اميركي بالخروج من الشرق بعد تدميره لاننا كنا نرى بان لاميركا ان تحدد ساعة الصفر لبدئها لكنها لن تتحكم بعد ذلك بها زمانا ومكانا وحجم تدمير وكان المنطق يقود الى القول بأن اميركا التي يبدو انها لم تقرر ترك الشرق الاوسط بعد فإنها ايضا لن تتقبل بسهولة هزيمة من عياراستراتيجي ثقيل يتضمن سقوط هيبتها الردعية عبراطلاق تهديد والعجزعن تنفيذه وهذا الامر كان يفهمه جيدا من تهدده اميركا بحربها وهم يعرفون في المقابل بان « النصرالمستقر الذي يركن اليه» لا يكون الا اذا «صنع للعدو الخصم هزيمة يستطيع ان يتقبلها ويستوعبها» ولا تضطره الخسارة الى المجازفة اوالمغامرة بعمل للتملص منها «وعلى هدي هذين الأمرين جاءت المبادرة الروسية التي تمكّن اميركا من حفظ ماء وجهها وهي تتراجع عن تهديدها او لنقل تتحضّر لكي تتراجع عن تهديدها بالحرب.
والآن وقد اطلقت المبادرة التي تتضمن موجبين اساسين: الاول موجب على سورية الالتزام به وهو «التخلي عن السلاح الكيماوي الذي بحوزتها» عبر عمل ممنهج يبدأ بالقبول بمراقبة دولية له مسبوق بالانضمام الى المعاهدة الدولية لحظر تخزين واستعمال ونقل الاسلحة الكيماوية وانتهاء بتدميرهذا السلاح بإشراف دولي عندما تتوفرشروط هذا الامر وهي مهمّة لايمكن تنفيذها قبل سنوات عدة يقابله موجب على اميركا التقيد به ويتضمن «عدم العدوان على سورية او التهديد به وهو موجب فوري ومستمر» ويكون الاتفاق كله بضمان روسي بما تملك روسيا من قدرات متنوعة تمكّنها من ضبط تنفيذ المبادرة نصاً وروحاً وبما يستجيب للغاية الرئيسية من اطلاقها بعد كل ذلك ترتسم في الافق اسئلة تبحث عن اجابات او تفسير او ايضاح وتتعلق في امكانية التنفيذ ومكاسب الفرقاء وخسائرهم من المبادرة وأخيرا التداعيات على مسار الحركة في الشرق الاوسط عامة ومحور المقاومة خاصة.
و نبدأ مع السؤال الاول ونقول إن المبادرة لم تطلق في الظرف الذي تمت فيه لتكون ترفا دبلوماسيا يستهلك فيه الوقت بل ان العمل الاميركي الروسي المشترك والمنسق روسياً مع كل من سورية وايران هو الذي ادى الى اطلاقها بهذا الشكل لتمكن اميركا من الخروج الآمن من خطر الحرب. المأزق في الشرق الاوسط خروجاً لا يدمر هيبتها الردعية عملا بالقاعدة التي ذكرناها حول الهزيمة المقبولة وتاليًا وبعد القبول الواضح والصريح لسورية بالمبادرة وبدعم وتأييد من ايران بات من المنطقي القول بأن المبادرة ستنفذ متوازنة ولن يكون لمن شعر بالضرر الجسيم منها دور فاعل في تعطيلها بدءاً من فرنسا التي يبدو انها لم تستشر كما هي عادة اميركا مع الاخرين من الاتباع مروراً بالسعودية وتركيا وقطر التي يبدو ان عليها جميعا ان تعلم انه عند الجد لا يعبأ بها سيدها الاميركي ولا يعير لها وزنا او اهتماما وانتهاء بالدمية الاضحوكة المسماة ائتلاف سوري ومعه جيش سوري ينتحل صفة الوطنية والحرية في الوقت الذي هم فيه مجموعة من المرتزقة عبيد الشهوات للمال والنساء والسلطة. وعليه نرى ان المبادرة الروسية هي فعل للتنفيذ لكنه يتطلب وقتا ليس بالقصير ويستلزم الكر والفر الدبلوماسي والمناورات هنا وهناك من اجل تحسين الشروط والمكاسب لهذا الفريق او ذاك ولن تكون بضعة ايام او اسابيع كافية لهذا الامر.
اما بالنسبة للمكاسب والخسائر فإننا نرى:
ان اميركا بشكل خاص تستطيع ان تقول وهذا ما قالته فعلا بانها كانت تنوي الحرب من اجل امن اسرائيل وان نزع السلاح الكيماوي من اليد السورية سينعكس ايجابا على امن اسرائيل مباشرة لانه افقد سورية وتاليا محور المقاومة سلاحا كان يعوّل عليه من اجل توازن استراتيجي مع «اسرائيل» وانها توصلت الى هذا الانجاز بعد تهديدها بالحرب ما يعني انها ابتدعت قاعدة جديدة في التعاطي مع محور المقاومة قد يقول قائل فيها بان اميركا يمكن ان تستسهل هذا السلوك مستقبلا ضد حزب الله من اجل تجريده من سلاحه الذي عملت على نزعه وفشلت منذ عام 2000 او من اجل وقف البرنامج النووي الايراني الذي عملت على وقفه واخفقت منذ عام 2005 اي يمكن لاميركا ان تعتمد سياسة الضغط والتهويل بالحرب من اجل بلوغ اهداف استراتيجية وتكتية وسياسية كبرى.
لكننا لا نرى ان الامور في عمقها تسير وفقا لهذا التفسير فصحيح ان سورية ستخسر حرية تقليب السلاح الكيماوي الذي بحوزتها عبر وضعه تحت رقابة دولية لكن هذا السلاح هو في الاصل يندرج تحت عنوان «يملك ولا يستعمل « وفي كل دراستانا ومناقشاتنا مع اصحاب الشأن حول هذا السلاح كنا نتوصل الى اجماع النظرة حوله التي تقوم على القول ان ليس من الحكمة والمنطق ان يستفز من يملك السلاح النووي بالسلاح الكيماوي او يستدرج لاستعماله اي ان الاستعمال لن يحصل ابتداء واذا حصل بعد استعمال النووي فلا يكون من نتيجة يعول عليها في مسار النزاع ثم ان محور المقاومة مجتمعا لا يجد اخلاقيا او شرعيا اللجوء الى مثل هذا السلاح وما قالته ايران في السلاح النووي وحرمته ينطبق على السلاح الكيماوي وعدم مشروعيته وتاليً لا نرى ان التخلي عن شيء غير مشروع دينيا واخلاقيا وما لن يستعمل حتى ضد العدو لا نجد في هذا الامر خسارة يؤسف عليها لا بل يعتبر هذا التخلي تأكيداً لمصداقية المقاومة ومنها ايران في قولها انها لا تسعى للنووي.
اما عن اتخاذ التهديد بالحرب سلوكا يُعتمد في وجه محور المقاومة مستقبلا قياسا على هذا الامر فاننا نجد فارقا كبيرا وتباينا بين الوضعين وهو تباين مبني على الخلاف الجوهري في طبيعة الامور فسلاح المقاومة والبرنامج النووي السلمي هو حق مشروع لاصحابه ويعتبر تركه او التخلي عنه بمثابة التخلي عن حقوق اساسية يقود الى الغاء الذات المستقلة وهذا ما لا يمكن القبول به وان خير اصحابه بين التخلي عنه او الحرب فان الخيار يكون عندها الحرب حتما لانه سيكون خيار بين موت اكيد او حياة مع احتمال الشهادة. وبالطبع يكون اختيار الثاني والذي يعني الحرب والامر خلاف ذلك بالنسبة للكيماوي.
و تبقى نقطة لا بد من الاشارة اليها هنا بان مسالة الكيماوي وبالشكل الذي تمت فيه وآلت اليه انتهت الى تراكم «عجز القوة « في المعسكر المعادي لمحور المقاومة واذا كانت حرب 2006 افقدت «اسرائيل» حرية القرار بالحرب الآمنة والسريعة وادخلتها في دائرة «عجز القوة « فان ازمة الكيماوي 2013 اظهرت ايضاً عجز القوة الاميركية عن حرب كما فعلت في العراق وسيكون لهذا الامر تداعيات بالغة الأهمية مستقبلا.
ان سورية ومعها محور المقاومة تكون بقبول المبادرة قد تجنبت حربا تدميرية لا يمكن تحديد سقف الخسائر فيها وهنا ومع اننا على يقين بان هذا المحور سيلحق الدمار ايضا بمصالح المعتدي وحلفائه ولكن الدمار يبقى هو الدمار على كلا الجانبين وان منع الحرب مع تنازل بسيط يبقى افضل بكثير من حرب قد تأتي على الكثير من الانفس والممتلكات والقدرات وبصورة خاصة على السلاح الاستراتيجي السوري الذي هو الهدف المركزي للعدوان اصلا. وهنا اعتقد بان وزير الخارجية السوري كان موفقا جدا حينما برر القبول بالمبادرة بالحرص على دماء السوريين وامنهم وممتلكاتهم مظهرا ان « الدولة السورية هي ام الصبي « بعكس المرتزقة الخونة لوطنهم الذين يستجدون حربا وقتلا لشعبهم.
ومن جهة اخرى ان منع الحرب الخارجية سيمكن الدولة السورية من متابعة عملياتها العسكرية التطهيرية التي برعت في ادائها وحققت انجازات رائعة عبرها خلال الاشهر الماضية لان الحرب لو وقعت ستجبر الجيش السوري على اتخاذ وضعية دفاعية تناسب الهجوم ما سيفرض وقف العمليات تلك حتى انتهاء العدوان. ومن جهة اخرى نذكر بما كنا نتوقعه من جزئيات خطة العدوان في مرحلتها الخامسة التي تتمثل بتقديم الدعم الناري للقوى التي تم تحضيرها في الاردن وتركيا فضلا عن القوى الحاضرة في ريف دمشق من اجل تنفيذ الخطة الهجومية التي فشلت المرة تلو المرة في اقتحام دمشق او السيطرة على حلب او البقاء في حمص. ولهذا السبب رأينا الذهول والصخب والعويل لدى الخونة لوطنهم ومعهم خونة الامة والاسلام من مرتزقة سوريين وانظمة خليجية ومعهم تركيا الذين صدمتهم المبادرة واجهضت احلامهم بتقسيم سورية او الاستيلاء على حكمها او..او…
اما على صعيد التداعيات فإننا نسجل وبشكل مختصر التالي:
اقفال الباب امام اي تصور باسقاط سورية عبر العمل العسكري الخارجي وبضمانة روسية وهنا تكون روسيا التي اقفلت باب مجلس الامن امام اميركا احكمت من خلال المبادرة اقفال الباب امام اي عمل عسكري من خارجه ومع ارجحية القدرات العسكرية التي تملكها الدولة السورية ومحور المقاومة مدعومة بروسيا التي ستجد نفسها بعد المبادرة اكثر التزاما بمد سورية بشتى الامدادات العسكرية ستكون نتائج المواجهة على الارض السورية محسومة لصالح الدولة. وصحيح ان اميركا ومثلث العدوان الاقليمي سيجهد نفسه في تسليح وتجهيز وتحشيد التكفيريين والمرتزقة الا انه كما نتصور لن يستطيع ان يحدث ارجحية او توازناً في الميدان وهو فشل كان السبب اصلاً في التدخل الاميركي المباشر والتهديد بالحرب.
سيكون الطريق الى «جنيف 2» بحثا عن الحل السلمي للازمة حول سورية اقل عوائق وعراقيل خصوصاً وان من يتابع مواقف اعداء سورية يجد انهم باتوا على قناعة بذلك حتى ان اوباما نفسه اكد هذه الامر مؤكدا الحاجة للبحث عن حل يكون فيه العمل الدبلوماسي متقدما على العمل العسكري. وهنا سيكون انتصار لسورية التي منذ البدء سعت الى حل سياسي يؤكد حق الشعب السوري في اختيار حكامه وهو الامر الذي رفضته قوى العدوان لانها ارادت فرض سلطة عميلة على سورية خلافا لارادة شعبها.
ستكون روسيا بما تملك من طاقات وقدرات خصوصاً العسكرية منها التقليدي وغير التقليدي ضامنة للتنفيذ وستكون اميركا على قناعة بان روسيا لم تطلب من سورية التخلي عن الطمأنينة الاستراتيجية التي اعتقدت بان الكيماوي يوفرها الا بعد ان انتجت لها طمأنينة من باب آخر وهنا نعود الى الفكرة الاساس التي تنتظم النزاع والمواجهة في سورية وحولها وهي ان الحرب لم تكن داخلية او اقليمية بل انها في الاصل حرب كونية انخرط فيها الفرقاء وفقا لمواقعهم وامكاناتهم وان روسيا هي الان في قلب المعركة التي حققت لها موقعا اعادها الى ما كانت عليه قبل 1989 قائلة «وداعا لعالم احادي القطبية « وبات سلاحها النووي حارسا استراتيجيا لهذا المشهد الجديد وهي تعلم يقينا ان وجود محور المقاومة وقوته كان السبب والسبيل لإنتاجه.