القوة الناعمة السعودية: مراكز الفكر لاعب أساسي
موقع الخنادق-
زينب عقيل:
في ظل النظام الدولي الحالي والذي يزداد تعقيدًا بشكل متسارع، وبروز القوة الناعمة كأداة رئيسة للدول لتحقيق مصالحها داخليًا، وحتى في توسيع نفوذها لدى الدول الأخرى، يفتح هذا الواقع الجديد الباب أمام لاعبين سياسيين جدد، مثل مراكز الفكر. نمت مراكز الفكر في العقود الأخيرة بمعدل هائل، وظهرت في النقاش حول السياسات العامة وتصميمها في جميع المجالات: الصحة، والتعليم، والثقافة، والقانون، والاقتصاد، والأمن، والدفاع، والبيئة، والموارد الطبيعية، والطاقة، والعلاقات الدولية، وغيرها. وهي تؤثر على صنع القرار على الصعيدين الوطني والدولي كما تعتبر مورد إضافي للإدارة السياسية للدول. وهو الأمر الذي وعته الإدارة السعودية مبكرًا، ولطالما استخدمته للحصول على ضغط سياسي على صناع القرار الأمريكيين وغيرهم، خاصة أن المال الذي تملكه السعودية، هو قوة ناعمة أيضًا، يمكن من خلالها شراء التقارير، ونتائج البحوث، وكذلك يمكن من خلالها المشاركة في وضع السياسات العامة لدولة أخرى، والتي ترسمها مركز الفكر واللوبيات التابعة لها في أي دولة.
لماذا مراكز الفكر مهمة للقوة الناعمة السعودية ودبلوماسيتها العامة؟
أولًا: هندسة السياسات وتشويه الحركات بالأموال
يحتل الإنفاق على المجال البحثي حيزًا كبيرًا من المساعي السعودية لتدعيم طموحات ورؤى هذه الدولة وخاصة في الفترة التي بدأت معها ما سمي بثورات الربيع العربي، لتقديم الرؤى المضادة لهذه الثورات في إطار الحفاظ على المشيخات في مجلس التعاون الخليجي. وهو حيز قد يوازي ما يُنفق على شركات العلاقات العامة وجماعات الضغط واللوبي في الغرب. وتعتمد السعودية على مراكز الأبحاث والتفكير لترسيخ وشرعنة رؤيتها في عدد من المجالات المتباينة ابتداءً من علاقة حركات الإسلام السياسي بالإرهاب، مرورًا بالرؤى الإستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط والتحالفات فيها، وكذلك الحملات الدعائية السلبية ضد عدوها المتمثل بإيران ومحور المقاومة ومؤسساته، حتى في الفترة التي تلت المصالحة بين إيران والسعودية. تحتاج الإدارة السعودية إلى مراكز الفكر بعد الاتفاق مع إيران، أكثر من أي وقت مضى، خاصة أنها كما يبدو حتى الآن تعتمد سياسة المراوغة والتناقض بين الأقوال والأفعال.
يأخذ الاستثمار السعودي في البحث العلمي أشكالًا عدة، أبرزها إنشاء مراكز أبحاث ومراكز تفكير وطنية، وتمويل مراكز إقليمية وغربية، وإقامة شراكات مع مؤسسات دينية ومجتمعية بهدف التغلغل فيها، وكذلك إقامة شراكات مع منظمات دولية. في وثائق نشرتها صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، في سبتمبر/أيلول 2014، جاء فيها أن 64 حكومة أجنبية منها 9 حكومات عربية، أنفقت ما يناهز 8 ملايين دولار، تلقاها 28 مركز أبحاث أمريكي في السنوات الأربعة الأخيرة فقط.
ثانيًا: تقديم التحليل والمشورة
يتم استشارة الخبراء الخارجيين بالإضافة إلى الدبلوماسيين الأجانب في وزارة الخارجية. في رؤية 2030، احتاج محمد بن سلمان لدفع الأموال الطائلة لمراكز فكر داخلية وخارجية لتصميم السياسات العامة للرؤية، وخاصة للقوة الناعمة للسعودية الجديدة التي تعتبر جزءًا أساسيًا من الرؤية، سواء محليًا على مستوى الصحة والتعليم والثقافة والبنى التحتية، وخارجيًا على مستوى العلاقات مع الدول والمنظمات الدولية.
إلى ذلك، لدى الترتيب لزيارات رسمية مثلًا أو مشروع علاقات خارجية كبير على وشك الإطلاق تنظم مراكز الفكر ووزارة الخارجية حلقات دراسية للخبراء لتزويد صناع القرار بخبرة إضافية في مجالات مثل حل النزاعات، والدخول في وساطات أو التجاوب مع الاقتراحات. بالإضافة إلى تحليلات مصممة بشكل جيد على الورق مخصصة لعيون الإدارة فقط، وأحيانا علنية، كلما كان ذلك يناسب أهداف الدبلوماسية العامة.
ثالثًا: المشاركة في صناعة سياسات تخدم مصالحها في الدول الأخرى
يقول بن فريمان Ben Freeman وهو مدير مبادرة شفافية التأثير الأجنبي في مركز السياسة الدولية CAP، إن “جزءًاً حيوياً من الطريقة التي تحاول بها الحكومات الأخرى التأثير على السياسة في الولايات المتحدة هو التمويل الأجنبي للمؤسسات الفكرية”. ويشير فريمان إلى ان أعضاء الكونجرس ومسؤولو السلطة التنفيذية، يعتمدون بشكل كبير على مراكز الفكر للحصول على الخبرة في مجموعة واسعة من القضايا، وحتى للمساعدة حرفيًاً في صياغة السياسة العامة.
تضخ الدول الخليجية وعلى رأسها قطر والسعودية، كل عام، عشرات الملايين من الدولارات في تلك المؤسسات. وعلى الرغم من أن العديد من مراكز الفكر غير ربحية ومعفاة من الضرائب، فإن مثل هذه “التبرعات” غالبًا ما تكون “مجرد هدايا خيرية”. وتأتي المساهمات الأجنبية بشكل عام مصحوبة بشروط مهمة للغاية، وهي دعم المصالح السعودية من قبل الخبراء سواء على المحطات التلفزيونية، أو لدى تقديم المشورات لأعضاء الكونغرس، أو حتى لدى جماعات الضغط، أو جلسات الاستماع أمام الكونغرس. والواقع أنه يمكن أن يكون مركز الفكر نفسه بمثابة لوبي أو جماعة ضغط.
بداية عام 2019، أثارت التقارير الصادرة عن CAP جدلاً واسعًاً، بعد أن أدانت مقتل الصحفي المعارض جمال خاشقجي، لكنها لم تدعُ إلى فرض عقوبات بشأن ذلك. ووفقًاً لتقرير من Intercept’s Ryan Grim، تم اللعب بهذه التوصيات، من بيان المركز من قبل أحد الموظفين، بعد ذلك، في كانون الثاني/ ديسمبر، أصدر مجلس الشيوخ قرارًاً لإنهاء تورط الولايات المتحدة في الحرب السعودية الإماراتية في اليمن. وفي حين رفض أحد الباحثين النقاش في شرعية الحرب بسبب ما وصفه بـ “التعقيدات”، فإنه لم يذكر اسم جمال خاشقجي في نقاشه.
لاحقاً، أفاد معهد الشرق الأوسط أنه تلقى ملايين الدولارات من السعودية، بغية “توظيف الخبراء من أجل مواجهة التصورات الخاطئة الأكثر فظاعة حول المنطقة” و”لإعلام صانعي السياسة في حكومة الولايات المتحدة”.
رابعًا: التثقيف.. أنا أصدّق العلم
يفعلون ذلك من خلال التقارير العامة والمؤتمرات والندوات والبودكاست والمدونات وغيرها من الأساليب لنشر الأخبار والمعرفة حول العلاقات الدولية. إنهم لا يعلمون الطلاب فحسب، بل يقومون أيضا بتدريس مجموعات واسعة من المجتمعات. وتحت عنوان أنا أصدق العلم، الذي يعتبر تقليدًا حضاريًا واتجاهًا سائدًا في هذا العصر، يمكن تعديل سلوكيات الناس بأسهل الطرق.
تعتبر القوة الناعمة هي أكبر استثمار في رؤية 2030، تخدم مراكز الفكر الرؤية على كافة المستويات وخاصة في ظل الطفرة التي أحدثها محمد بن سلمان في المجتمع السعودي، إذ نقل السعوديين من التطرف الوهابي إلى علمنة الإسلام بوقت قياسي. تزوّد مراكز الفكر الداخلية والخارجية المدعومة من الرياض النخب السعودية بأبحاث ودراسات نتائجها محسومة لصالح الرؤية الجديدة، وكنا قد تحدثنا في المادة السابقة عن القوة الناعمة السعودية: من التطرف الوهابي إلى علمنة الإسلام كيف حصل التحول على مبدأ الصدمة استخدام تقنية الإغراق بدل التراكم التاريخي الثقافي كقوة ناعمة محلية، وهي قوة ذكية وجهها الناعم إغراق الناس في الترفيه، ووجهها الصلب الضرب بيد من حديد لكل من يعارض.