الفلسطينيون وجدل “الهدنة” و”الخلافة”
موقع قناة الميادين-
عريب الرنتاوي:
يكاد القلق المحيط بصحة الرئيس الفلسطيني ومرحلة “ما بعده”، يتفشى في دول الجوار، وهو لم يعد مقصوراً على الفلسطينيين أو شأنهم وحدهم… “إسرائيل” في مقدمة القلقين والمتحسبين والعاملين على إدارة مرحلة ما بعد عباس.
انشغلت الأوساط السياسية الفلسطينية في الآونة الأخيرة بتطوّرين هامين، سيكون لكليهما، أو أي منهما، تداعيات مهمة – حال وقوعه- على المشهد الفلسطيني بمجمله:
الأول؛ قضية الخلافة والصراع عليها وعناوين مرحلة “ما بعد عباس”، في ضوء تواتر التقارير عن تردي الحالة الصحية للرئيس الفلسطيني محمود عباس.
الثاني؛ ليس بعيداً عن الأول، بل وقد يكون مرتبطاً به، وهو مشروع “الهدنة طويلة الأمد” الذي قيل إن “الوساطة المصرية” تعمل على إتمامه بين “إسرائيل” وفصائل المقاومة، حماس بخاصة.
قضية الخلافة جديدة – قديمة، فالرئيس عباس ناهز 87 عاماً، ومؤخراً تناقلت وكالات الأنباء معلومات عن زيارات لأطباء إلى المقاطعة، وفحوصات في عمان ورام الله خضع لها “أبو مازن”، وهي قضية مثيرة دائماً للجدل والقلق والتحسب، وما إن تهدأ لبعض الوقت، حتى تعود لتطفو على السطح من جديد، سيما مع إصرار الرئيس، البالغ حد “المكابرة” و”العناد”، على رفض البحث في الخيارات والبدائل التي ستأتي من بعده، وإحجامه عن تعيين نائبٍ له، بالرغم من المطالبات المتكررة، وبالذات في ضوء عدم وضوح الآليات الواقعية – وليس الدستورية – لانتقال السلطة.
ويزداد أمر الخلافة تعقيداً وضبابيةً، في ضوء عاملين اثنين:
الأول؛ تعدد مسؤوليات الرئيس والمواقع التي يشغلها، فهو رئيس السلطة والمنظمة وفتح و”القائد العام” إلى جانب مروحة واسعة من المسؤوليات والصلاحيات.
الثاني؛ غياب التوافق الواقعي على شخصية “الرجل الثاني”، حيث المنافسة تحتدم بين كثرِ من “المتساويين”، نصف دزينة على الأقل، الذين يعتقد كل واحدٍ منهم، بأنه الأحق بالخلافة من غيرها، أو أقله، أنه يتوفر على كل ما هو مطلوب من مؤهلات لشغل المنصب عندما تحين لحظة الشغور.
والأهم من هذا وذاك، أن المنافسة تحتدم بالذات في أوساط حركة فتح، فضلاً عن بعض اللاعبين من خارجها، في ظل انعدام أفق واقعي لإجراء انتخابات عامة، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، إذ بالرغم من كون إجراء الانتخابات مطلباً ملحّاً للغالبية العظمى من الفلسطينيين، فإن الفواعل الحقيقيين محلياً وإقليمياً ودولياً، لا يرغبون في الانتخابات ولا يفضلون إجراءها في المدى المنظور، ولا سيما أن معظم التقديرات، ترجح كفة حماس وحلفائها وتعظّم حظوظها، إن لم يكن بفعل تنامي شعبيتها فلأسباب تتعلق بتشقق حركة فتح وترهلها، وتنامي حالة انعدام الثقة بها بعد 30 عاماً من تجربتها في قيادة السلطة، وأكثر من ذلك بكثير، في قيادة منظمة التحرير، والنتائج الكارثية التي انتهت إليها الحركة والمشروع الوطنيين الفلسطينيين في ظلّ هيمنتها على مؤسسات القيادة وصنع القرار.
ويكاد القلق المحيط بصحة الرئيس ومرحلة “ما بعده”، يتفشى في دول الجوار كذلك، وهو لم يعد مقصوراً على الفلسطينيين أو شأنهم وحدهم… “إسرائيل” في مقدمة القلقين والمتحسبين والعاملين على إدارة مرحلة ما بعد عباس… الأردن مهتم بالأمر بصورة جوهرية، لتفادي سيناريوهين أحلاهما مُرُّ، حال الإخفاق في إدارة انتقال سلس وآمن للسلطة والقيادة: سيناريو هيمنة حماس وحلفائها، أو سيناريو فوضى السلاح وتشظي الحالة الفلسطينية… مصر قلقة من التداعيات على غزة وسيناء ودورها في مجالها الفلسطيني الحيوي… وهناك نصف دزينة من الدول العربية معنية بالأمر، فضلاً عن عواصم إقليمية ودولية تتابع الأمر من كثب.
ولدى استعراض “القائمة المختصرة” للمرشحين لشغل المنصب/المناصب، التي يتولاها “أبو مازن” اليوم، تصطدم هذه الأطراف، بأن كل مرشح على القائمة، يحمل صفات تدعمه لشغل منصب واحد على الأقل من المناصب التي يشغلها عباس اليوم، أما فكرة توزيع التركة على ثلاثة أو أربعة “خلفاء”، فدونها أيضاً عقبات وعراقيل، أقلها أن صراع الصلاحيات والمسؤوليات لن ينتهي بهذه القسمة، فرئيس المنظمة سيدفع بتهميش رئيس السلطة، والأخير سيفعل شيئاً مماثلاً ومعاكساً، وزعيم فتح سيذكرنا صبح مساء بأنها أول الرصاص وأول الحجارة وسيروي على مسامعنا صبح مساء، حكاية “العمود الفقري”، أما رئيس الحكومة، فمن أحق منه، وهو يقف على رأس السلطة التنفيذية بالمسؤوليات والصلاحيات…توزيع التركة على ثلاثة أو أربعة “خلفاء” محتملين، قد يفتح أبواب جهنم أمام صراعات وحرائق لاحقة، إذ إن “الانتقال” يتم في ذروة الانقسام العمودي بين جناحَي الحركة الوطنية والإسلامية، وفي لحظة تهاوي الدور الريادي والطليعي لحركة فتح وتآكله.
التغيير قادم، لكن ربما ليس بالسرعة التي روّجت لها صحف “إسرائيل” وإعلامها، فالرئيس ما زال لديه من الصحة ما يمكنه من تأدية “زيارة دولة” إلى الصين الشعبية، وهو ما زال يقول لمحدثيه إنه سيعيش طويلاً كأسلافه في “عائلة المُعمرين” التي ينتمي إليها…. التغيير قادم، ولكنه سيتم على “يد رب العباد وليس على أيدي الفلسطينيين”، كما كتب صديق فلسطيني قبل أيام. أما السؤال الحائر الذي ما زال يقف من دون جواب، فهو كيف ستنتهي هذه المرحلة الانتقالية، وكيف ستنعكس آثارها على مشروع الشعب الفلسطيني ومقاومته، وما هي الأدوار التي ستلعبها الأطراف الخارجية إن لجهة التقرير في مستقبل عملية الانتقال، أو لجهة تحديد هوية الرئيس أو القيادة الفلسطينية القادمة؟
“الهدنة طويلة الأمد”
القضية الثانية التي تصدرت اهتمامات الفلسطينيين، والتي قد تكون على صلة بهذا القدر أو ذاك، بقضية الخلافة والوراثة والصراع على السلطة ومرحلة ما بعد عباس، وأعني بها قضية “الهدنة طويلة الأجل”، التي تقول مصادر “إسرائيل” (وتنفي مصادر حماس)، إن مصر تعمل عليها بين قطاع غزة و”إسرائيل”، ويمتد بعض فصولها إلى الضفة الغربية، سواء من خلال توقف “إسرائيل” عن الاغتيالات والاقتحامات غير المبررة لقصبات المدن والمخيمات، أو من خلال إحجام الفصائل عن تنفيذ عمليات ضد أهداف إسرائيلية.
والحقيقة أن “إسرائيل” لم تلتزم لمصر أو لغيرها، بوقف الاقتحامات والاغتيالات، ربما تكون تحدثت عن تقليصها أو “خفض التصعيد” ما أمكن، ولكنها حتى وهي في ذروة جنوحها إلى خيار التهدئة، تحرص على إبقاء أيادي جنودها حرة وطليقة، ودائماً تحت مبرر “تفكيك القنابل المؤقتة”.
في المقابل، لا تستطيع الفصائل أن تعطي وعداً بوقف مقاومة الضفة الغربية والقدس، لأسباب ثلاثة أهمها: أن المقاومة في هذه المناطق ليست جميعها، وربما ليست في معظمها من صناعة فصائلية، وثانياً، لأن المقاومة ستفقد مبرر وجودها إن هي التزمت إسكات بنادقها على الجبهات كافة، وثالثاً: لأن الفصائل تدرك أن “إسرائيل” لن توقف زحفها الاستيطاني الجارف، وانتهاكاتها التي لا حدود لها، لحرمة المقدسات والأقصى، ولن تستحدث التباطؤ المطلوب، حتى لا نقول الوقف التام، لمشاريع تهويد القدس والضفة وأسرلتها…والأهم من كل ما سبق، أن الفصائل، خبرت بالملموس، عجز مصر عن إلزام “إسرائيل” بالوفاء بتعهداتها، فالقاهرة لا تمتلك القدرة على تقديم الضمانات، وهي لم تكن يوماً في موقع الضامن الموثوق للاتفاقات والتفاهمات المبرمة بين الجانبين.
لكن، مع ذلك، هناك من بين الفلسطينيين، من تداعبه فكرة “تحييد غزة” وتهدئة جبهاتها لبعض الوقت، وهناك من سبق له وأعلن قبولاً ضمنياً وحتى صريحاً في بعض الأحيان، بفكرة الهدنة طويلة الأجل.
المؤسف أن الاستخفاف الإسرائيلي بالطرف الفلسطيني والوسيط المصري بلغ حداً غير مسبوق، فكل ما عرضته في مقابل “التهدئة طويلة الأمد”، ليس سوى فتات اقتصادي ومعيشي لأبناء القطاع وبناته، وتسهيلات في الحركة والتنقل، لا ترقى إلى مستوى ما كانت عليه الحال قبل تسلم حماس مقاليد “سلطة الأمر الواقع” في غزة، كما أن أغلب “المحفزات” والمكافآت التي تعرضها “تل أبيب”، إنما تأتي من جيوب العرب، بالذات الدوحة والقاهرة، فهي لن تمانع في استئناف دخول أموال المنحة القطرية، وهي ستسهل حركة معبر رفع وفي الاتجاهين، وهي ستخضع العريش، مطاراً وميناء، لاحتياجات ومتطلبات حركة مرور الأفراد والسلع والخدمات والرساميل…”إسرائيل” تحتل أرض الفلسطينيين وتحاصرها، وتطلبهم بتهدئة طويلة الأمد، وتدفع لهم في المقابل، من أكياس دول الجوار العربي.
مشروع الهدنة الطويلة، بالصيغة التي يجري تداولها، هو واحدٌ من أشد الأخطار المحدقة بكفاح شعب فلسطين وتطلعاته التحررية، فهو يضرب عرض الحائط بشعار وحدة الساحات، ويترك الضفة الغربية نهباً لمواجهة “حربها الأخيرة” مع الاستيطان والعنصرية والعدوان، فضلاً عن كونه يحيد طاقات فصائل راكمت خبرة واقتداراً في مواجهة الاحتلال، وهو إن دلّ على شيء فإنما يدل على أن “إسرائيل” ترغب في تأبيد الانقسام، وتحييد القطاع، والتفرغ لالتهام ما تبقى من الضفة الغربية، وإجراء الحسابات والاستعدادات لمواجهة احتمالات فوضى انهيار السلطة أو الصراع على تقاسمها واقتسامها، ولكنها تريد فعل ذلك كله، فيما أيدي الفلسطينيين مغلولة، ويفضل بهدنة طويلة الأمد، طالما أنها لا تتخطى المبدأ الناظم للسياسة الإسرائيلية: “الاقتصاد مقابل الأمن”، بوصفها تجسيداً تفصيلياً لنظرية نتنياهو حول “السلام الاقتصادي”.