الفقـر والوعي والثورة
موقع قناة الميادين-
وليد القططي:
إشهار سيف الثورة بعد الوعي بالظلم المسبِّب للفقر حدث متكرر في التاريخ البشري، لاسيما ضد أنظمة الحكم التي تجمع بين احتكار السلطة والثروة، أو تتحالف فيها النخبتان الحاكمة والمالكة؛ فينهض الفقراء المستضعفون بالثورة.
تنتهي رواية “الحرافيش” للأديب الكبير نجيب محفوظ بثورة الحرافيش على حكم فتوّة الحارة الطاغية، والحرافيش هم طبقة مسحوقة من الكادحين الفقراء في الحارة المصرية كان الفتوّة يسلبونها عرقها ومالها. ومن خلال أحداث وحوارات الرواية وضّح نجيب محفوظ رؤيته للعلاقة بين الفقر والوعي والثورة، مُجيباً عن سؤال، من الذي يصنع الثورة، الفقر أم الوعي؟
فقد ظلَّ الحرافيش مستكينين دهراً من دون أن يثوروا على الطغاة المتعاقبين على حكم الحارة، ولم يثوروا إلا بعد أنَّ نشر عاشور الناجي –بطل الرواية– الوعي الثوري بينهم، ونقطة البدء كانت في الحوار الذي دار بين عاشور الناجي وأخيه، بعدما صفع حسونة السبع –فتوّة الحارة– أمهم على وجهها، فقال له أخوه: “لولا أننا صرنا حرافيش ما تعرّضت أمنا للإهانة”، فرد عليه عاشور الناجي “حرافيش أم وجهاء ستُدرك الإهانة دائماً من يتقبلها”، وبمفهوم المخالفة لن تدرك الإهانة من يرفضها، ورفض الإهانة والظلم يسبقه الوعي.
الرفض القائم على الوعي للإهانة والظلم هو الأرض التي تدفن في باطنها مخزون الغضب الشعبي المتراكم، حتى إذا ما تأجّجت نار الثورة انفجرت كالبركان تحرق الطاغية وتدمر منظومة الاستبداد والفساد، وهذا ما أدركه عاشور الناجي عندما نشر الوعي الثوري بين الحرافيش، فبدد وهم انتظار البطل المُخلّص الساكن في عقولهم واستبدله بالبطولة الشعبية ليتولوا بأنفسهم تغيير حالهم السيّئ بالثورة، وكسر حاجز الخوف من الطاغية المزروع في قلوبهم لينفجروا بشجاعة في وجه الطاغية وعصابته كالبركان الثائر، ونزع من نفوسهم مرض القابلية للاستحمار فانقلبوا بوعي ثوري يزودهم المناعة المقاوِمة للاستحمار والاستعمار، والمحصِّنة من الإذلال والاستغلال، والرافضة للإهانة والاستخفاف.
شرط الوعي بين الفقر والثورة أكده المفكر الشهيد، فتحي الشقاقي، في دراسته لثورة الشيخ الشهيد، عز الدين القسام، بعنوان: (القسام.. الرائد الأول لطلائع الحركة الإسلامية في فلسطين)، فذكر أنَّ القسام كان ينشر أفكاره الجهادية بين العمال والفلاحين والباعة، وهم فقراء الشعب الفلسطيني آنذاك، وعلّل ذلك بقوله: “إنَّ القسام كان يرى في العمال والفلاحين أصدق الفئات وأكثرها استعداداً للبذل والتضحية”، ولكن الشقاقي استنبط من ثورة القسام أنَّ الفقر وحده لا يصنع ثورة، ولا حتى مجرد الإحساس بالظلم الناتج عمّا سمّاه “القهر الاقتصادي”؛ فلا بد من الوعي بالفقر والظلم؛ فعلل ثورة القسام بقوله: “الإيمان في قلوب هذه الطليعة، والوعي لخطر التحدي والمعركة كانا العامل الأهم للثورة”، فالثورة عند الشقاقي هي نتيجة لمعادلة تجمع بين الإيمان والوعي، والقهر الاقتصادي الناتج عن الفقر أحد مصادر وقودها، لاسيما في ثورة تجمع بين الجهاد الإسلامي، والتحرير الوطني، والنضال الاجتماعي.
إشهار سيف الثورة بعد وعي الظلم المُسبّب للفقر حدث متكرر في التاريخ البشري، لا سيما ضد أنظمة الحكم التي تجمع بين احتكار السلطة والثروة، أو تتحالف فيها النخبتان الحاكمة والمالكة، فينهض الفقراء المستضعفون بالثورة ضد الأغنياء المستكبرين، إدراكاً منهم بأنَّ الفقير لا يجوع إلا بتخمة الغني، وقد يموت الفقير مخمصةً، فيما يموت الغني بطنةً، ولا ينتشر الفقر والحرمان في بلدٍ ما إلا بانتشار البذخ والإسراف فيها، ولا تزداد الهوة بين الأكثرية البائسة والقلة المُترفة إلا بازدياد الفجوة في توزيع الثروة بين طبقتي الميسورين والمعوزين، ولا يزداد الفقراء فقراً والأغنياء غنىً إلاّ بمنعهم حقهم في مال الله المودع بيد الأغنياء، كما وضح ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: “إنَّ الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا وعروا إلا بما صنع أغنياؤهم”.
وفهم الصحابي الثائر أبو ذر الغفاري –رضي الله عنه– هذا التوجيه النبوي، فقال: “عجبت لمن لم يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه”، وهذا ما شرحه ابن حزم الأندلسي –إمام المذهب الظاهري– في كتابه (المُحلّى)، بقوله: “إذا مات الرجل جوعاً في بلدٍ اعتُبر أهله قتلة، وأُخذت منهم دية القتيل، وإنَّ للجائع عند الضرورة أنْ يُقاتل في سبيل حقّه في الطعام الزائد عند غيره، فإنْ قُتل (الجائع) فعلى قاتله القصاص، وإنْ قُتل المانع (الغني) لعنه الله لأنه منع حقاً وهو من الطائفة الباغية”، والأصل ألا يصل المجتمع المسلم إلى هذه الدرجة تطبيقاً لمبدأ التكافل الاجتماعي عملاً بنص الحديث النبوي “مَن كانَ معه فَضْلُ ظَهرٍ فَلْيعدْ به على مَن لا ظَهرَ له، ومَن كان له فضلُ زادٍ فَلْيَعدْ به على مَن لا زادَ له”، والأولى أن يكون الزاد والحاجات الأساسية لأفراد المجتمع مكفولة لهم بإيجاد فرص عمل للقادرين، وسد حاجات غير القادرين وفق منظومة التكافل الاجتماعي.
إذا كان حضور الوعي مطلوباً للثورة، فإن تغييب الوعي مطلوب للطغاة، الذين يعمل كهنتهم لترسيخ مفاهيم ومعتقدات تُشرعن الفقر والتفاوت الطبقي والظلم الاجتماعي، ولذلك فإن تصويب هذه المفاهيم والمعتقدات المُرسِّخة للفقر كحالة فردية ومنظومة اجتماعية مطلوب لخلق وعي رافض للظلم المؤدي إلى الفقر، ومن أمثلة ذلك: أهمية الوعي بالمشكلة الاقتصادية بأنها مشكلة سوء استغلال وإنتاج لموارد الطبيعة، وسوء استهلاك وتوزيع للثروات، وليس مشكلة ندرة الموارد الطبيعية التي أودعها الله تعالى في الأرض لتكفي كل البشر إلى يوم القيامة لقوله تعالى عن الأرض (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا)، وأهمية وعي المنهج النبوي في سد حاجات الفقراء بكرامة من خلال تمكينهم من امتلاك أدوات الإنتاج لإيجاد فرص عمل لهم تسد حاجاتهم، وليس بتقديم مساعدات مالية وعينية لهم تسد حاجاتهم موقتاً وتبقيهم متسولين مؤبداً، وأهمية تصويب عقيدة القضاء والقدر وعلاقتها بحرية الإنسان ومسؤوليته، وتصويب مفهوم التوكل على الله وربطه بالسعي والعمل، وتصويب حقيقة التفاوت الاقتصادي ووضعه في إطار التكامل الوظيفي والحراك الاجتماعي، وغير ذلك من الأمثلة.
العلاقة بين الفقر والوعي والثورة لخصها فيلسوف الثورة الاشتراكية، كارل ماركس، بقوله: “الفقر لا يصنع ثورة، إنما وعي الفقر هو الذي يصنع الثورة، الطاغية مهمته أنْ يجعلك فقيراً، وكاهن الطاغية مهمته أن يجعل وعيك غائباً”. فوجود الفقر –من دون إحساس بالقهر ووعي بالظلم– لا يصنع ثورة ولا يحدث انفجاراً، ووجود الفقر والإحساس به كقهر اجتماعي لا يصنع ثورة، ولكنه يُحدث انفجاراً شعبياً يُفرغ مخزون الغضب والانتقام، وقد يحقق مكاسب جريئة موقتة لمصلحة الفقراء من دون أنْ يُغيّر واقعهم جذرياً. ووجود الفقر والإحساس به كقهر اجتماعي، ووعيه كمنظومة حكم تصنع الفقر والظلم يصنع ثورة، إذا ما اكتملت شروطها تؤدي إلى تغيير جذري يفضي بدوره إلى تداول السلطة والثروة، ويُحقّق العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، ويقضي على الاستبداد والفساد.